في رحاب رمضان المبارك
أثر الصيام في تنمية روح التواضع في الإنسان !
الخليج اليوم – قضايا إسلامية الثلاثاء 20-مايو-1986 م
إن خلق “التواضع” من أهم خصائص الأمة الناجحة في معترك الحياة ، فقد ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم :”من تواضع رفعه الله ومن تكبر وضعه الله” ، وروى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :”ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله” ، وإن عكس التواضع هو الكبر والإعجاب ، فهما من أكره الخصال عند الله وعند الناس أجمعين ، وقد ورد في القرآن الكريم العديد من الآيات المحكمات في تحريم الكبر والإعجاب وتكريم التواضع والإصلاح ومنها قوله تعالى :”تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين” (القصص : 83) ، ثم قال :”ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور” (لقمان : 18) وجدير بالاعتبار أن خلق التواضع إنما يحمي صاحبه من أخطار التفاخر المشين ، والتعاظم الأثيم والتنابذ بالألقاب والتراشق بسفاسف الأمور ، وأن هذه الأخلاق هي التي تؤدي الأفراد والجماعات إلى هاوية التحارب والتناحر وبالتالي إلى التحلل والانحطاط وإلى الضعف والهوان ، ومن هنا نعرف فحوى قول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم :”من تواضع رفعه الله” وقوله :”وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله” ، وكل ما ينطوي على الأفراد ينطبق على المجتمع لأن المجتمع إنما يتكون من الأفراد فكما يكون الفرد المتواضع عزيزا مكرما عند الله وعند الناس ، يكون المجتمع المتواضع عزيزا مكرما عند الله وعند الناس ، فما هو دور الصيام في تثبيت هذا الخلق العظيم في حياة الصائم ؟
بالصيام تنمو نظرة العطف والتعاون
إذا أدى الإنسان المؤمن فريضة الصيام بنية صادقة وعزيمة خالصة ، وبآداب واجبات مطلوبة يكسب في نفسه قوة النظر إلى أبناء أمته ووطنه بنظرة العطف والحنان والرفق والتعاون فلا يشعر الغني بالترفع على الفقير والقوي على الضعيف والكبير على الصغير ، لأنه يتحمل طائعا مختارا آلام الجوع والعطش والتعب ويدفعه ذلك الشعور إلى تذكر الجائعين والعطشى ويزول بذلك الشعور المترفع بالفوارق بين الطبقات والتفاخر بالأنساب والألقاب والأموال لأنه يتذكر في هذه الظروف المليئة بالحب والحنان والعطف الإنساني قوله صلى الله عليه وسلم : “وكلكم من آدم وآدم من تراب” ، ويشعر أيضا بنعمة الله عليه من الأموال والأولاد والأثواب والأثاث الفاخر وألوان الطعام فبالتالي يذكر الأقارب والجيران والأصدقاء والعاملين والكادحين الجياع الذين حرموا من هذه الألوان من النعم فيتفتح قلبه ، وينشرح صدره ويعطف ذهنه تجاه الآخرين .
وهل هناك أثر أشد وأقوى وأدوم في تنمية روح العطف والتعاون في الإنسان من أثر الصيام ؟
التواضع قوة وعزة
وعرفنا من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم أن التواضع يؤدي إلى الرفعة والعزة والكرامة وهو أيضا يبني القوة في الروح والعقل والنفس والجسم أيضا فكلما ينتشر هذا الخلق الحسن النبيل بين أبناء المجتمع ينتشر فيه التعاطف والتعاضد والتضامن فسيكون كبنيان مرصوص ، ويزول من صفوفه الإحساس بالفوارق الطبقية والترفع الاجتماعي والتفاخر الوضعي فهذا هو عين القوة في كيان المجتمع ومصدر الأخوة والمعاطفة بين أوصاله ، وأبرز دليل على أثر التواضع في تقوية دعائم الأمة قوله تعالى : “يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين” (المائدة : 54) ، وقوله أيضا آمرا رسوله الكريم : “واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين” (الشعراء : 215) وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “إن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد” (رواه مسلم) .
نماذج التواضع في سيرة الرسول
روى عن أنس رضي الله عنه :أنه مر على صبيان فسلن عليهم ، وقال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ” (متفق عليه) ، سئلت أم المؤمنين عائة رضي الله عنها : ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته ؟ قالت : كان يكون في مهنة أهله – يعني : خدمة أهله ، فإذا حضرت الصلاة ، خرج إلى الصلاة ” (رواه البخاري) ، وعن أبي رفاعة تميم بن أسيد رضي الله عنه قال :انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب ، فقلت : يا رسول الله ، رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه فأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم : وترك خطبته حتى انتهى إلي ، فأتى بكرسي ، فقعد عليه ، وجعل يعلمني مما علمه الله ، ثم أتى خطبته فأتم آخرها” (رواه مسلم ).
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل طعاما ولعق أصابعه الثلاث ، قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”إذا سقطت لقمة أحدكم ، فليمط عنها الآذى ، ليأكلها ، ولايدعها للشيطان ” ، وأمر أن تسلت القصعة قال :”فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة ” (رواه مسلم) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :”ما بعث الله نبيا إلا راع الغنم ” قال أصحابه : أنت ؟ فقال :نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة” (رواه البخاري) .
وإن أبرز خصائص أثر الصيام في نفوس المؤمنين ، الدفع إلى تذكير عزة التواضع والرحمة ذلة التفاخر والتعاظر .