مجلة الجامعة الاسلامية – المدينة المنورة
لقد امتازت الرسالة التي أرسل بها الرسول العربي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بعموميتها إلى كافة الثقلين ، وشمولها لجميع مرافق الحياة البشرية ، وقد خص الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وحده بأن يكون رسولا إلى كافة الناس ، وجعله خاتم النبيين ، ورحمة للعالمين ، وقد صرح القرآن الحكيم بهذا فقال تعالى مخاتبا له “قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا” (الأعراف : 158) ، وقال له رب العزة أيضا “وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون” (سبأ : 28) .
فلا بد أن تكون الدعوة المحمدية غير محلية ولا بيئية ولا موجهة لأمة دون أخرى ، وتحت عنوان عموم الدعوة المحمدية يقول فضيلة الدكتور محمد فتح الله بدران رحمة الله في كتابه : الفلسفة الحديثة في الميزان …(ولقد كانت كل الدعوات السابقة عليه بيئية ، محلية ، محدودة ، مصدقة ، ومكملة ، وممهدة ، أما منذ دعوته صلى الله عليه وسلم إلى الأبد ، فهي في عمومها أوسع من أن تدرك أو تحدد لأنها تشمل الناس كافة وجميعا)[1].
وقد كان دين الرسل واحدا كما قال سبحانه :”شرع لكم من الدين ما وصى به نوح والذي أوحينا إليك” (الشورى : 13) ، وقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولكل واحد من أتباعه في سورة آل عمران :”قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون” (84) .
وإذا نظرنا إلى طبيعة الدعوة المحمدية وخصائصها نرى أنها مرت بمراحل كثيرة وكلها بإذنه تعالى وأمره ، وبمقتضى حكمته في خلقه ، فكانت الهجرة من مكة إلى المدينة مرحلة هامة من مراحل الدعوة الإسلامية ، ونقطة تحول خطير في انتشارها في أرجاء الأرض ، وهي التي مهدت السبيل لوصولها إلى مختلف القبائل العربية ، ودعت الأمم والشعوب لاستطلاع حقيقة هذه الدعوة وصاحبها وجذبت الوفود من داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ، وفتحت الأبواب إلى فتح مكة ثم إلى فتوحات أخرى عديدة .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بدأ دعوته في مكة ، من أول نبوته سرا ، وبعد أن مضى في هذه المرحلة من الدعوة السرية أو المحمدية مدة ثلاث سنين ، أمره الله تعالى أن يدعو الناس إلى الإسلام علنا ، فكان يذهب إلى الناس في مواسم الحج كل عام وإلى مواسم الأخرى في عكاظ ومجنة ، وذي المجاز وغيرها من الأسواق العربية الشهيرة ، واستمر هذا الدور المكي العلني من الدعوة الإسلامية لمدة عشر سنين أخرى ، أي أنه استمر يدعو قومه ثلاث عشرة سنة ، ولقي من الأذى هو والمؤمنون به الكثير ، ثم أمره الله بالهجرة إلى المدينة .
ونجم عن هجرة الرسول من مكة إلى المدينة أن تكونت في المدينة نواة الدولة الإسلامية الأولى ، وتقع المدينة المنورة شمالي مكة ، على مسيرة إحدى عشر يوما منها ، وكانت في تلك الأيام مدينة مكشوفة معرضة للغزو الخارجي ، حتى أقام النبي صلى الله عليه وسلم ، بحفر الخندق المشهور لرد عدوان قريش ، ويقال إن أول بني يثرب أحد رؤساء العمالقة ، وظلت تسمى باسمه حتى قدم إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان العمالقة يسكنون في يثرب وفي ضواحيها في العصور الغابرة ، ثم توالت هجرة اليهود إلى بلاد العرب فرارا من وجه مضطهديهم أو الآخذين بالثأر منهم من البابليين ، واليونان ، والرومان ، فاستطنوا شمال الحجاز .. وكانت أشهر القبائل اليهودية النازلة ببلاد العرب ، بني نضير في خيبر ، وبني قريظة في فدك ، وبني قينقاع بالقرب من المدينة ذاتها ، وكان اليهود يقيمون في قرى محصنة فاستطاعوا أن يسيطروا على جيرانهم من القبائل العربية إلى أن جاءت الأوس والخزرج – وهما قبيلتان من نسل وقحطان – فأقامتا في يثرب ودانتا لليهود في أول الأمر ثم صارت لهما الولاية عليهم “[2] .
وكانت حال “يثرب” السياسية حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم إليها ، حالة حرب عوان بين الأوس والخزرج ، ومؤامرات من اليهود لإشعال نار الفتنة بين هاتين القبيلتين العربيتين ، ومحاولتهم السيطرة على القبائل العربية المجاورة ، فكان قدومه صلى الله عليه وسلم فاتحة عصر جديد في تاريخ جزيرة العرب لأنه آخى بين الأوس والخزرج حتى نسوا ما تأصل في نفوسهم من عداوة وضغائن ، وأصبحوا بنعمة الله إخوانا ، وانضموا تحت لواء هجروا وطنهم ولحقوا به في المدينة ، وبين هذين الفريقين من المؤمنين في السراء والضراء توثيقا لعرى المحبة والأخوة الإسلامية بينهم .
وبهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وضع أول حجر في بناء الدولة الإسلامية ، واتخذ مسجده مقره العام ليقيم فيه المسلمون شعائر دينهم ، وليعقدوا فيه اجتماعاتهم للنظر في شؤونهم العامة ، ووضع الرسول للجماعة الإسلامية نظاما تسير عليه في زمن المسلم ن والاشتراك معهم في الدفاع عن المدينة ضد الخطر الخارجي ، ثم أخذ يعد العدة لنشر الدعوة الإسلامية بين القبائل العربية ، ومحط أنظار العرب وشعوب العالم .
وكان بالمدينة في الفترة الأولى لهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها ثلاث طوائف مختلفة ، الطائفة الأولى : المهاجرون والأنصار وهم نواة الإسلام ، وكانوا يحبون رسول الله حبا لا حد له ، إذ أن روح الأخوة الإسلامية التي غرسها النبي صلى الله عليه وسلم بينهم حالت دون ظهور أي أثر من آثار الجاهلية ، وبدأ الأنصار والمهاجرون يتنافسون في بذل أكبر تضحية في سبيل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والطائفة الثانية : كانت تتألف من المنافقين ، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي ، وكان عبد الله يطمع أن يكون ملكا على المدينة أحبط أعماله في استغلال من يريد إذ تولى زمام السلطة ، فاضطر هو وأنصاره في غمرة الحماسة التي استقبل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يتظاهروا بالإسلام ، ولكنهم كانوا يتحينون الفرصة لينقلبوا على المسلمين ، وأخذوا يدبرون المؤامرات ضدهم في الخفاء ، ولذلك كانوا مصدر خطر كبير على الدولة الإسلامية الناشئة ، وهذه الطائفة هي التي ذكرها القرآن الكريم في سورة المنافقين : فقال فيهم :” إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله ، والله يشهر إن المنافقين لكاذبون ، اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون” (المنافقون : 1-2) .
وأما الطائفة الثالثة : في المدينة فكانت تتألف من اليهود الذين أثارت ضغائنهم وأحقادهم هجرة الرسول إليها ، ورسوخ عدوته فيها ، وذيوع أمرها في أنحاء جزيرة العرب ، فتحزبوا ضد المسلمين وأصبحوا أشد الأحزاب خطرا على الدعوة الإسلامية ، مع أنهم كانوا يستفتحون على المشركين إذا نشبت الحرب على الفريقين بنبي يبعث قد قرب زمانه ، ولكن أعماهم حب الرياسة ، فاستعظموا الأمر ، مما زاد خطرهم على الدعوة الإسلامية في المدينة أن كانت لهم بقريش علاقات تجارية وثيقة ، كما كانت توجد منهم شعب في مختلف القبائل المعادية للإسلام ، وكذلك كان يساعدهم على المخالفة للرسول صلى الله عليه وسلم ومحاربة دعوته جماعة المنافقين من عرب المدينة .
وقد بلغت المؤامرات الثلاثية – بين اليهود والمنافقين والمشركين ضد الدولة الإسلامية الناشئة ذروتها ، وهذا الوضع استلزم اليقظة التامة من جانب النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان يعاملهم بغاية الصبر والحلم رجاء أن يستميلهم إلى الحق والسلم ، وكان يواصل دعوته فيهم بالحكمة والمعظة الحسنة ، وتظاهر اليهود في أول الأمر بالاشتراك مع أهل المدينة في الترحيب بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والتزموا خطة المسالمة فترة من الزمان ، وذلك على أمل أن هذا الداعية المتواضع الذي نزل على الأوس والخزرج الذين كانوا أعداءهم بالأمس ومواليهم اليوم ، قد يساعدهم على قهر العرب واستعادة مملكة يهوذا [3] ، ولم يكد يمضي زمن قصير حتى عاودهم داء التمرد القديم الذي دفعهم إلى قتل أنبيائهم ، وتجلت أعراض هذا الداء فيما جاهروا به من الفتنة ، وما أسروا من الغدر والخيانة ، فجاهروا المسلمين بالعداوة ومدوا يد المساعدة لقريش علنا ، وما أظهرع النبي صلى الله عليه وسلم من الرفق وكرم المعاملة ما كان ليرضى اليهود ، ولم تجد الحيل في إطفاء نار الحقد التي كانت تتأجج في صدورهم ، وغاظهم أنهم عجزوا عن اتخاذه آلة في أيديهم لتهويد العرب ، وأن الدين الذي جاء به أقرب إلى الفطرة من قصصهم التلمودية ، فلم يلبثوا أن نقضوا العهد والميثاق ، وانضموا إلى أعداء الإسلام ، ولما سألتهم قريش “أديننا خير أم دين محمد؟ “قالوا “بل دينكم خير من دينه” [4] ، مع علمهم بكل ما ينطوي عليه دين قريش من شرك وخرافات ومساوئ .
وإذا أردنا أن نعرف مدى أثر هجرة الرسول إلى المدينة على تطور الدعوة الإسلامية وتدعيم دعائمها وتوسيع نطاق نفوذها في أنحاء جزيرة العرب وخارجها ، وجب علينا أن نتتبع مجرى الحوادث الهامة التي تبعت وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ومنها حدوث الظروف التي أفضت إلى عقد المسلمين معاهدات واتفاقيات مع اليهود وقبائل العرب في المدينة ، وفيما جاورها من المدن ، وكذلك دخول المسلمين في حروب دفاعية مع أعدائهم وخاصة ما نتج عنها من انتصارهم في بدر ، وكان للنتائج التي ترتبت على هذه المعاهدات ، والانتصارات أثر عميق في نفوس المسلمين ، ووقع كبير في أسماع العرب أجمعهم ، من ذلك أو الوفود قد قدمت إلى المدينة لمقابلة بني الإسلام صلى الله عليه وسلم ومبايعته بعد انتشار خير دعوته في أرجاء لجزيرة ، ومنها تكوين حلف منظم يجمع شمل العناصر المتنافرة الضاربة في المدينة وضواحيها ، فوضع الرسول وثيقته التاريخية يبين فيها ما للمسلمين وما عليهم فيها بينهم ، وما للمسلمين واليهود وما عليهم ، وتظهر لنا هذه الوثيقة عظمته الحقيقية ، وما حباه الله من مواهب ، وهدفه المنشود في أنشاء مجتمع سليم ينتظم الجنس البشري كله وكذلك سدد بهذه الوثيقة ضربة قاضية إلى الفوضى التي كانت سائدة بين قبائل العرب ، وهذا بعض ما تضمنته تلك الوثيقة التاريخية التي أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ملزما بمحتواها كما أصبح اليهود ملزمين به كذلك .
“بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من محمد النبي ، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم ، وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس ” ، ثم يقول بعد أن عرض لتنظيم دفع الديات بين القبائل المختلفة وتقرير بعض القواعد الحكيمة بصدد ما يجب على المسلمين بعضهم نحو بعض .
لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم ، إنه من تبعنا من يهود فإنه له النصر والأسوة ، غير مظلومين ولا منتاصرين عليهم ، وإن يهود بني عوف ، وبني النجار ، وبني الحارث ، وبني جشم ، وبني ثعلبة ، وبني الأوس وغيرهم ممن يقيم في يثرب أمة واحدة مع المؤمنين ، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم ، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ [5] إلا نفسه وأهل بيته ، وإن بينهم النصر على دهم يثرب ، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة ، وإن بطانة يهود ومواليهم كأنفسهم وكذلك المؤمنون وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم ، أو ابتغى وسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين ، وإن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم .
وبعد ما كان بين أهل هذه لصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله [6] .
وهكذا أخذ صوت الدعوة الإسلامية الذي بدأ في مكة ، وجلجل في المدينة ، يتردد في القارات الكبرى في العالم ، ولولا الهجرة لما كانت الفتوحات التي غيرت مجرى التاريخ وعدلت وجهة الدنيا ، هذه الهجرة هي التي مكنت العرب من أن يكفوا حصارهم وينتشروا في بقاع العالم يحملون أمانة الله ويبلغون رسالته ، فما أجل أمرهذه الهجرة ، وأعظم أثرها في تاريخ الدعوة الإسلامية .
[1] ص 340 (الطبعة الأولى ، القاهرة سنة 1968 م) .
[2] روح الإسلام لأمير علي جـ 1 ص 133 (طبع مصر سنة 1961 م) .
[3] روح الإسلام ص 138 (الطبعة المذكورة) .
[4] روح الإسلام .
[5] يهلك .
[6] ابن هشام (طبع مصر 1346 هـ) .