الخليج اليوم – قضايا إسلامية الأربعاء 27-أغسطس-1986 م
ن النظام الإسلامي إنما هو نظام إنساني عالمي فطري يشمل جميع مرافق الحياة البشرية على وجه الأرض في جميع الأزمنة والأمكنة ويشير دستور النظام الإسلامي إلى هذه الميزة الكبرى التي يتميز بها الإسلام حيث قال : ” ما فرطنا في الكتاب من شيئ ” (الأنعام) ، فقد حوى هذا الدستور أصول وقواعد وأنظمة المعاملات الإنسانية كلها ومنها المعاملات التجارية التي هي مصدر التقدم الاقتصادي والنمو للمجتمع والأفراد .
وقد أنزل الله سبحانه وتعالى سورة خاصة بقانون التجارة الخالد وسماها سورة “المطففين” ، وأن الآيات الأولى من تلك السورة تضع القوانين الأساسية للمعاملات التجارية في كل زمان ومكان وظروف فلا تتخلف ومفعوليتها في أي عصر وفي أي مكان لأنها قوانين ثابتة الأصول والمعايير .
فقال تعالى في بدء تلك السورة : “ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين” (المطففين) ، وأن القانون التجاري الناجح في نظر المنهج التراثي إنما هو عدم “التطفيف” في البيع والشراء والأخذ والعطاء وهو عبارة واضحة عن التزام العدل في الكيل والوزن عند بيع شيئ للآخر وكذلك عند شراء شيئ منه حسن إقامة الميزان ووضع المكيال بالقسط ، ويمكن لنا أن نقول في ضوء المصطلحات التجارية العصرية إن مقدار النجاح والخسارة في التجارة إنما هو “الأمانة” وإذا كان التاجر ملتزما بالأمانة والعدالة في المعاملات والمواصفات والمقاييس فيكون النجاح حليفه بإذن الله تعالى ويشتهر صيته في أوساط العملاء والزبائن ، وإذا كان تاجرا لا يلتزم بدقة الأمانة في البيع والشراء والتصديروالاستيراد بحيث يراعي إرجاح المكيال والميزان عند الشراء والأخذ ، ويحاول إخسار المكيال والميزان وإنقاصهما عند البيع والعطاء ، وكما أنه يهتم باستيفاء المواصفات والمقاييس عند الاستيراد ولا يهتم بها عند تصدير بضاعته وسلعته فتخل موازين الأمانة التجارية في شأنه بين العملاء والزبائن فيتركونه ويلجئون إلى تاجر آخر يلتزم بصفة الأمانة في الكيل والوزن وبالتالي تتعرض تجارته للكساد والركود والخسارة فينطبق عليه القانون التجاري التراثي “فويل للمطففين” أي خسارة لهم .
القوانين القرآنية فطرية وعامة
إن القرآن هو المنهج الإلهي العام لجميع البشر فأسي شخص أو فئة أو أمة يطبقه ويعيش بمقتضاه فيجني الثمرة المترتبة عليه والموعودة له من رب العالمين ، بصرف النظر عن الأسماء والمظاهر والانتماءات الصورية فمثلا فإن هذا القانون القرآني الذي وضعه رب الناس معيارا ومقياسا لنجاح المعاملات لتجارية ، وفشلها ، أي مراعاة الأمانة وعدمها ، يعطي نتائجة لكل من يسير عليه إيجابا وسلبا ، ووجودا وعدما سواء أكان مسلما أو مسيحيا أو يهوديا أو هندوكيا أو بوذيا أو شيوعيا أو ملحدا أو غيره فعندما التزم الأوربيون بصفة الأمانة في المعاملات التجارية في المكيال والميزان والمقاييس والمواصفات في التصدير والاستيراد – مثلا – لمجرد الاعتبارات المادية والاقتصادية بدون فكر أو نظر من زاوية التعاليم الدينية أو الروحية – فقد نجحوا في تجارتهم الدولية وأحرزوا قصب السبق في ميدان التجارة في بلاد المسلمين أنفسهم وبدأ المسلمون يتهربون من المعاملة مع إخوانهم الذين ابتعدوا عن التمسك بهذا القانون التجاري الفطري ، ويتلهفون على كل ما هو مستورد من أوربا ومكتوب عليه “مصنوع لندن” أو “مصنوع أمريكا” إلى آخر القوائم الأجنبية فاستفاد العاملون بهذا القانون القرآني من حيث لا يعلمون وخسر المسلمون الذين لم يعلموا به وهم يعلمون أنه قانون قرآني ولكنهم لم يعلموا أنه فطري عملي وليس بفكرة نظرية ، تحفظ في الصدور والسطور وتتلى آياته بدون وعي تطبيق .
وقال تعالى مؤكدا ومنبها إلى ضرورة الالتزام بهذا القانون للنجاح في المعاملات التجارية في كل زمان ومكان :” ويا قوم أوفوا الميكال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشيائهم” (هود : 85) .
السماحة والأرجاح في الوزن والكيل عند البيع سنة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “رحم الله رجلا سمحا إذا باع ، وإذا اشترى وإذا اقتضى ” (البخاري) ، وروى عن جابر رضي الله عنه : “أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى منه بعيرا فوزن له فأرجح” (متفق عليه) .
وعن ابن صفوان سويل بن قيس رضي الله عنه قال : جلبت أنا ومحرمة العبدي ، بزا من هجر ، فجاءنا النبي صلى الله عليه وسلم ، فساومنا بسراويل ، وعندي وزان يزن بالأجر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للوزان : “زن وأرجح” (رواه أبو داود والترمذي) ، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم بكل قوة وتنبيه على التزام خلق حسن القضاء والتقاضي في المعاملات الاقتصادية ومنه قوله عليه السلام : “فإن خيركم أحسنكم قضاء” (متفق عليه) ، وقوله أيضا : من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة ، فلينفس عن معسرا أو يضع عنه” (مسلم) ، ومن آداب المعاملات أيضا ترك الغلظة في التقاضي ، وإنظار المعسر وتأجيله ، وإكرام الزبائن والتجاوز عن زلاتهم لأنهم مصدر رواج تجارته وعدة مستقبل معاملاته ، ووسيلة دعاية سلعه وبضاعته فعليه استقبالهم برد السلام وحسن الكلام وأدب الإكرام .