صوت الهند – القاهرة سبتمبر 1970 م
عرفنا من المقال السابق أن حضارة “أندس” التي شهدتها الهند قبل فترة التاريخ المدون ، قد مضى عليها الآن أكثر من 5 آلاف سنة ، وقد دلت الاكتشافات الأثرية الجديدة الموجودة في مركزين لتلك الحضارة “موهنجودارو وهاربا” في وادي السند على بعض خصائص تلك الحضارة وامتدادها ، والآن نشرع في دراسة التاريخ الهندي من بداية العصر التاريخي .
وبعد أن اندرست حضارة موهنجودارو وهارابا كانت هناك فترة طويلة من التاريخ تمتد لحوالي ألفي عام لم يعرف عنها شيء إلى الآن إلا من خلال الكتب الهندوسية القديمة “بفيدا” وهو مكتوبة باللغة السنسكرتية الكلاسيكية ، وتشير هذه الكتب إلى أن قوما جديدا قد نشأوا في تلك الفترة وترعرعت حضارتهم الجديدة ، وعرفوا في التاريخ “بالقوم الآري” كما عرفت حضارتهم “بالحضارة الآرية” .
وبذل علماء البحث التاريخي جهودا عديدة لتحديد منبت هؤلاء الآريين وخصائصهم فوصلوا إلى النتيجة التالية : كان الناس في تلك الفترة يتكلمون بلغات مختلفة ، ويعبدون الآلهة الكثيرة ويتبعون أنظمة اقتصادية واجتماعية عديدة ، وأثبت علماء اللغات من التشابه الكبير الذي اكتشفوه بين شتى اللغات القديمة مثل السنسكرتية واليونانية واللاتينية والبهلوية ، واللغات الجرمانية معروف باسم “أسرة اللغات الهندية – الأوربية” .
وكذلك اكتشفوا تشابها ملحوظا بين مظاهر الحياة الدينية والاجتماعية لهؤلاء الأقوام ، فسموهم “السلالة الهندية – الأوروبية ” أو الأريين” .
مهد الآريين :
إذا عرفنا أن هؤلاء الأريين كانوا يعيشون في بلاد مختلفة ويتحدثون بلغات عديدة ، مع أنهم كانوا ينتمون إلى جنس واحد ، فلا بد أن كان مهدهم واحدا ثم نزحوا إلى مختلف البلدان عبر العصور ، وقام علماء التاريخ بمحاولات جمة لاكتشاف الموطن الأصلي للآريين .. ولو أنهم أشاروا إلى مناطق عديدة كموطن أصلي محتمل للجنس الآري ، ومنها مناطق قطب الشمال وجبال القوقاز وأوربا الوسطى وآسيا الوسطى والهند وغيرها ، لم يتفقوا على رأي واحد حول ذلك بطريقة محققة .
ومن ناحية أخرى لم يصل بعد ، علماء البحث التاريخي إلى الأسباب الرئيسية التي دفعت هؤلاء الآريين إلى ترك موطنهم الأصلي وهجرتهم إلى أماكن مختلفة نائية عن موطنهم ، ولم يتحقق أيضا العصر الذي بدأ فيه الآريون هجرتهم إلى تلك البلاد ، ولكن قبل ألفي عام لميلاد المسيح عليه السلام كانت تقطن في بلاد غرب آسيا مجموعات صغيرة من الأقوام المختلفة المعروفة بأسماء : الحيثيين والميتانيين والقصيين وغيرها ، وكانوا يتكلمون بلغة واحدة ويعبدون آلهة متشابهة ، كما كان شأن الآريين في الهند .
وأما عصر أو فترة وصول الآريين إلى الهند فلا يزال محل اختلاف بين العلماء والباحثين ، ولكن قد اتفق معظم هؤلاء العلماء عن أن الآريين حينما جاءوا إلى الهند قد حملوا معهم مجموعة من التراتيل الدينية التقليدية وهي التي تعرف الآن باسم “ريجفيدا” الذي يعتبر من أقدم الكتب المقدسة الهندوسية ، وأشملها شرحا وتفصيلا لمعتقدات وعادات الطوائف الهندية القديمة ، ومادام “ريجفيدا” هو المصدر الرئيسي للمعلومات عن فترة الألف الأول من تاريخ الآريين في الهند ، فإن تحديد عصر تأليفه يلقي ضوء على عهد وصول الآريين إليها .
وقد حدد بعض الباحثين ، ومنهم البروفسور “ماكسمولار” عصر تأليف ريجفيدا للفترة ما بين 1200-1000 ق .م بينما يرى البعض ، مثل “تيلاك” و”جاكوبي” أن عصره يعود إلى ما بين 5000 – 4500 ق.م ، فإذا نظرنا إلى انتشار الآريين في أنحاء الهند قبل عهد “بوذا” وكذلك إلى الآداب الواسعة التي تطورت بطريقة مرموقة في العهد “الفيدي” الذي سبق العهد البوذي بعشرات القرون ، نستطيع أن نرجع الرأس الوسط القائل بأن عصر “ريجفيدا” يعود إلى نحو 2500 ق.م أي عقب انهيار حضارة “موهنجودارو” وأندراس مدنيتها .
ويتألف الأدب الفيدي القديم من أربع مجموعات من الكتب الفيدية ، وهي : “ريجفيدا” ، “سمفيدا” ، “يجورفيدا” “أثروافيدا” ، وأما “ريجفيدا” فأقدمها وأحسنها وأشملها ، ويحتوي “سمفيدا” على التراتيل الدينية المختلفة ومعظمها مأخوذ من “ريجفيدا” ، بينما يتناول “يجورفيدا” الطقوس والعبادات ، وأن “أثروافيدا” يشتمل على الأوراد والترانيم التي يرتلها الكهنة ، ونظروا للتعقيدات اللغوية لهذه الكتب الكلاسيكية قام بعض كهنة البراهمة بوضع شروح خاصة لها ، وتعرف تلك الشروح باسم “براهمانس” ، وجمعوا الآراء الفلسفية والمعتقدات “الميتافيزيقية” للمفكرين الآريين ، في كتاب خاص يعرف باسم :”أوربانيشاد” .
وأما العهد الذي تم فيه تدوين تلك الآداب التي تنعكس فيها آراء ومعتقدات وعبادات الآريين فهو المعروف في التاريخ الهندي ، “بالعهد الفيدي”.
ويعتبر “ريجفيدا” أيضا المصدر الرئيسي بمعرفة النظام الذي كان يتبعه الآريون في حياتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية .
(يتبع ..)