ي رحاب القمة الإسلامية (4)
أنظــار الأمـــة عــلى حـصـــاد القـمــــة
الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 29-يناير-1987 م
(دراسة وتحقيق)
لقد دأبت “الخليج اليوم” منذ خروجها إلى حيز الوجود على تركيس جهودها على معالجة القضايا الإسلامية ، فكرا وتحليلا ، ونظرا وتفصيلا ، ثم على تقديم الحلول المناسبة لكل قضية ، في ضوء الأصول الإسلامية والمبادئ الشرعية والقوانين الفطرية ، بدون تعقيد ولا تشديد وبلا إفراط ولا تفريط ، حتى صارت صفحة “القضايا الإسلامية” على حد تعبير بعض الأقلام النقية والجهات الوفية منبر الإسلام والمسلمين ومنار الدارسين المحققين عن قضايا العصر وأحداثه المعنية للأمة الإسلامية وفي مقدمتها هذه القيمة !.
آمال الأمة الإسلامية
إن الأمة الإسلامية أو أمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها تتطلع بآمالها العريضة وتوقعاتها العديدة إلى هذه القمةالأطلنطي ، في القارات الثلاث العظمى – آسيا وأفريقيا وأوروبا – وأن الأهداف المنشودة من هذا المؤتمر العظيم إنما هي : تحقيق التضامن الإسلامي وتنشيط الوفاق بين الدول الإسلامية من أجل العمل الجاد المشترك لمواجهة الخلافات الخامسة التي يعقدها الآن في الكويت في منطقة الخليج ، رؤساء الدول الإسلامية الممتدة من المحيط الهادي إلى المحيط القائمة بين بلاد العالم العربي والإسلامي وتقديم المقترحات اللازمة بتوحيد كلمة المسلمين وبترحيب الجهود المبذولة كل الخلافات الجانبية والهامشية بين أوصال أمة الإسلام بطريقة ودية وأخوية وسليمة وفورية لأن الخلاف الطويل مبعث الدمار الوبيل ، والنزاع الحاد يبدد الطاقات وينزف الدماء ويرهق الأعصاب ويذهب كرامة الأمة ويضعف مكانتها في المحافل الدولية والساحات العالمية .
مرحلة جديدة
أما مواجهة الصراعات والخلافات وكذلك التحديات الخارجية والداخلية بطريقة المواعظ والخطب الهادئة أو الصاخبة أو النداءات الرسمية والبيانات القومية أو الدولية فلم تعد مجدية في هذه المنعطف التاريخي لمجريات الأمور في العالم المعاصر الذي هو مليء بالتطورات ومائج بالزوابع الزاخرة والتقلبات الهائجة يوما فيوم فلا بد من أن تترك تلك التقلبات والتغيرات الجذرية انعكاسات على دول العالم كلها ومرافق الحياة بحذافيرها ، وبالتالي يجب على الدول الإسلامية وشعوبها تحليل الواقع العالمي العصري في ضوء المستجدات الأخيرة ، وتمديد وسائل العمل الإسلامي ، إن أرادت مواكبة العصر ومواجهة الخطر .
ومما زاد الطين بلة أن تقطيع أوصال العالم الإسلامي وامتصاص دمائه واقتطاع أراضيه ما زال الهدف الجماعي للدوائر الجشعة في عالم الاستعمار كله ، وتعمل هذه القوى المغرضة منذ القرون وحتى اليوم ، بل وتخطط للمستقبل القريب والبعيد أيضا ، من أجل إطفاء نور الإسلام وإضعاف عظم نظامه ومكانة أمته ، سواء بالغزوات الفكرية والمؤامرات السياسية والمناورات العسكرية والمخططات الاقتصادية ، وقد تنبهت تلك القوى المتربصة والعناصر المتطلعة إلى استغلال واستعمار واستعباد تلك الأمة العظيمة من أقصاها إلى أقصاها ، إلى خطورة تخلص معظم شعوبها وبلادها من نير الاستعمار الغربي ودخولها معركة التقوية الذاتية والتنمية الوطنية والتضحية في سبيل الحرية والكفاءة لأن هذه الحالة تكسب للعالم العربي والإسلامي الاكتفاء الذاتي ، وتجعله قائما على رجليه بدون أن يكون عالة على الغرب ، ومعتمدا على منتجاته ومصنوعاته ، ويكون للشرق كله مكانا مستقلا ومتميزا على خارطة العالم وهذا هو عين الوضع الذي لا يصبر عليه الغرب المستعمر الجشع .
ولم يلبث أن أعاد الكرة مرة أخرى لاستبدال الاستعمار القديم بثيابه المعروف المردود ثيابا ملونة بألوان العصر الجديدة إمعانا في التضليل والتمييع والتقييم على أذهان البسطاء والمنبهرين أو المغتربين بالاعيب الغربية والاستعمارية الماكرة ، وأظهر هذا الاستعمار الحديث الجذاب لوحات التعمير بدل الاستعمار ويافطات التجديد بدل الاستغلال ، ورفع راية الود والتعايش السلمي بدل التهديد والتعذيب ، وأكبر وأخطر سلاح استعمله الاستعمار الجديد إنما هو الإيقاع بين الشعوب العربية والإسلامية وتبديد طاقاتها وتشتيت شملها وتمويه الأمور أمامها بكل ما أوتيه من قوة وسائل الإعلام وأساليب الخداع حتى استطاع فرض منازعات وخلافات إقليمية وعرفية مذهبية وحزبية بين أبناء عقيدة واحدة وثقافة واحدة وحضارة واحدة ولغة واحدة ثم فرض عليهم أنماط حياة وأنشطة غربية عن حضارتهم وشريعتهم بكل إتقان وإحكام .
نجاة الأمة بمنجزات القمة
وإن منجزات مؤتمر القمة الإسلامية هي التي تعود على الأمة الإسلامية بوميض من شاطئ النجاة من أعماق بحر التهلكة من كل الجهات ، وأن هذا الهدف المنشود من هذا التجمع المعقود في هذا الزمن المعهود في تاريخ الأمة المكدود ، إنما يتحقق من ارتفاعه من الوضع المفروض عليه إلى الوضع المطلوب منه على الصعيد الفكري والعملي والواقعي ، وأول شيء يرجو كل مخلص من هذه القمة أن يكون في إطار الوحدة الربانية التي وضعت أمتها في ظلها منذ أن وضع الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم أول لبنات بناء الأمة الإسلامية حيث آخى بين المهاجرين والأنصار والأوس والخزرج ، فألف الله بين قلوبهم وأصبحوا بنعمته إخوانا كالبنيان المرصوص ، وقد تحقق لهم ذلك الهدف النبيل بالتمسك الحقيقي بمبادئ الإسلام وبتغيير ما بأنفسهم من فرقة وعصبية وأمراض اجتماعية ومفاسد أخلاقية ، فغير الله ما بهم من ذلة وهوان وعبودية وخذلان فصاروا وملأوها خيرا وبركة ، وعمروها علما وحضارة نشروا فيها العدل والإحسان والأخوة والمساواة .
ولذلك وجب على قادة الأمة الإسلامية أن ينظروا أولا وقبل كل شيئ بعين الإمعان والإنصاف والاتعاظ والاعتبار إلى سيرة الباني الأول لهذه الأمة وخلفائه الراشدين ، الذين أعطوا للأجيال اللاحقة ، القدوة الحسنة والمثال الطيب الواضع من سلوكهم وأخلاقهم ، لكي تكون في تلك السورة النيرة نبراسا ودليلا لبناة الأمة في عصرنا هذا ، وأن هذا النظر وذاك الاعتبار لازم لا مناص منه في ضوء النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ، والقوانين الفطرية فيقول القرآن الكريم :”لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة” (الأحزاب : 21) . ويقول مشيرا إلى تلك الأسوة في بناء الأمة : “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون” (آل عمران : 103) .
وقد اتضح من هذه البيانات الإلهية أن الأخوة كانت ، وستكون دائما ، مصدر الوحدة في صفوف الأمة وأن هذه الوحدة إنما هي السبيل الوحيد للقوة والعزة والكرامة في حياة تلك الأمة ، فصار لزاما على كل من ينصب نفسه لإصلاح الأمة وبنائها من جديد على قواعد ثابتة سليمة أن يدرك جيدا أن نبذ الفرقة بين الأخوة والتشتيت الفكري بين زعمائها ورفض الصراعات الهامشية عند مناقشة القضايا المصيرية ، وأخيرا الوفاق على نقاط الاتفاق والإدراك بأن الاختلاف دخيل على أمة الإسلام ومصطنع لها من أعدائها المغرضين والمتربصين والحاقدين على قدوتها وقدرتها ووحدتها وقوتها ، بفضل أخوتها ، ومن العجب العجاب ، أن هؤلاء الأعداء قد نجحوا في بذر بذور الشقاق بين صفوفها وتحقيق ضياعها ! .
العلاج الناجع لهذا الفاجع
إن العلاج الناجع لما أصاب الأمة الإسلامية من علل وأمراض أخلاقية وسلوكية واجتماعية ولما أصابها ، بالتالي ، من تخلف وتشتت وضياع ، ولما أصابها من هوان وخذلان في المحافل الدولية والأوساط المدنية الحديثة ، هو تسديد خطاها ، وتوقيف نزيفها بأيديها وإنهاء فرقتها ووضع حد لنعرات التعصب والتمذهب والتعنت البغيض .
وأما السبيل الوحيد إلى تحقيق ذلك العلاج المفيد ، فهو استعمال الدواء الموصوف من رب العباد ، والموثوق بأثره الفعال ، وكأنه أساس كل شفاء وعمران ، ومن الغباوة أن يظن الإنسان أن النتيجة تأتي بدون مقدمات ، وأن الجزاء يحصل بدون عمل ، وأن البيت يرفع بدون أساس .
وقد بين القرآن لأمته طريقتين هامتين لمعالجة أمراضها كلها .
فالأولى : تغيير ما يالأنفس من الادران والجراثيم والمواد الفاسدة والمفسدة وإزالة ما فيها من الرذائل والمساوئ المضادة للنواميس الفطرية القويمة ، وإلى هذه الطريقة يشير القرآن الكريم :”إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” (الرعد : 11) . وأما الطريقة الثانية فهي :تصحيح السلوك الاجتماعي بحيث يتخذ كل مسلم مصلح يهدف إلى معالجة أمراض المجتمع الإسلامي ، معاملة الأخوة ومعاملة التعاون ومعاملة السلام ، أساسا لسلوكه مع الآخرين ، ويتخذ أيضا النصح والصلح والود وسائل بناء أمة الإخاء ، بدون أي نوع من التطرف أو التهجم .
ويرشد القرآن قادة الأمة وعامتها إلى طريقة استخدام هذا الدواء بصورة مفيدة ومثمرة فيقول : “ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعج ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ” (آل عمران : 105) . وأن أول الواجبات على قادة الأمة في هذه الظروف العويصة هو جمع كلمة المسلمين من جديد وإيقلف نزيف الدم وإنهاء الفرقة الممقوتة ، وينبغي أن تكون بداية جمع الكلم عن طريق نقاط الاتفاق رغم كل شيء من مظاهر الاختلاف الجانبي ، وهذا الجمع يتأتى بفهم نظام الإسلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والدعوة إلى الخير ، وأن هذه الوسائل الثلاث لا بد أن تؤتي ثمارها عند وضعها في حيز التنفيذ بإخلاص وصدق نية وبأسلوب واع وأخوي ، وأن هذا الأسلوب كفيل بإعادة الوضع الحالي المؤسف لأمة الإسلام إلى مساره الصحيح بشرط أن يكون استعمال هذا الأسلوب بروح الأخوة أيضا بدون الالتجاء إلى أسلوب التأنيب أو التنفير أو التشديد بل بأسلوب سيد الأساليب خير البشر وهادي الأمة وهو الأسلوب الذي أثنى عليها رب العالمين إذ قال ::”فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ، فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ، إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون” (آل عمران : 160) . ومع اتباع هذا السلوك الإسلامي في جمع الكلمة ودرء الصدع ولم الشمل تبدأ عملية توثيق الأخوة الإسلامية المؤدية إلى الوحدة العملية والمصيرية ، وإنما يتحقق هذا الهدف المنشود الهام الخطير بحسن التفاهم بين قادة المسلمين وبحسن التناصح بين علمائهم وبحسن التجاوب بين مجتمعهم جماعات وفرادى بعيدين عن العنت والتعصب والتكبر والتعالي والتعاظم فليتدبروا جميعا بقلوب واعية إرشاد رب القلوب وعلام الغيوب إذ قال هاديا ومرشدا بإعجاز وإيجاز مبين : “تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين” (القصص : 83) . وأن من أبغض الخصال عند الله التعالي في الأرض صم الإفساد فيها لأن التعالي مبعثه الكبر وبطر الحق وتحقير الناس فقال الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم في حق المتكبر : “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر” (رواه مسلم) . وقال مبينا معنى الكبر :”الكبر بطر الحق وغمط الناس” (رواه مسلم) . وأن بطر الحق هو : رد الحق على قائله وعدم الالتفات إلى النصح وهو عين التعالي والاستكبار والاستعظام المبعد عن رحمة الله ورضاه ، وأما غمط الناس فهو : احتقارهم ففي مقدمة احتقارهم عدم قبول نصحهم بالحق ودعوتهم إلى الطريق المستقيم ، وقيل : “من تكبر وضعه الله ومن تواضع رفعها الله” .
وأما الإفساد في الآرض والإبعاد بين الأخوة وإثارة البغضاء بين المسلمين فمن المهلكات التي تقطع أوصال الأمة وتبيد طاقاتها وتقضي على مقومات حياتها ، ولهذا جاء التحذير عن خلق النميمة والإفساد والوشاية بين الناس في أشد الأساليب في كتاب رب العالمين وإرشاد أشرف المرسلين فيقول القرآن :”إن الذين يحبون الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة” (النور : 19) ثم يقول :”والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا ، فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا” (الأحزاب : 58) ، وكذلك جاء تحريم النميمة وهي نقل الكلام بين الناس بقصد الإفساد أو بطريقة تؤدي إلى حدوث سوء التفاهم بين الأصدقاء :”ولا تطع كل حلاف مهين ، هماز مشاء بنميم ، مناع للخير معتد أثيم” (القلم : 12) .
وأما المفسد بين الناس والمعارض على التآلف والتضامن والتآخي فهو قد صار عرضة لأشنع العتاب وأشد العقاب بنص آيات الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ومن صور ذلك العتاب المنصوص عليها في الآية المذكورة أن الذي يفسد بين الأخوة وينقل الكلام بينهم على طريقة إيجاد سوء التفاهم وسوء الظن فيما بينهم إنما هو في الحقيقة وفي الواقع العملي مناع للخير ومعتد على حقوق الأخوة وعلى أواصر التعاون والمحبة ، وآثم في حق الإنسانية السليمة وفي حق العباد ، فصار بهذه الخصال الدنيئة وبالا على الأمة كلها .
القوى الأربع في الأمة الإسلامية
إذا نظر الباحث الدارس بعين التحقيق والإمعان يرى أن الأمة الإسلامية اليوم تملك أربعة أنواع من القوى الهامة النادرة ، وبفضل مثلها سادوا وقادوا الدنيا في الماضي ، وبها أيضا يستطيعون استرداد مجدهم واستعادة حقهم في الحاضر والمستقبل ، ومن بالغ الأهمية أن يدرك أمراء هذه الأمة وعلمائها أن هذه الحقيقة قد عرفها ووعاها أعداء الأمة الإسلامية منذ زمن بعيد وبشكل أكيد ، وقد وضعوا لها ألف ألف حساب ، ورتبوا لمواجهتها ألف مليون خطة ونفذوا ولا يزالون ينفذون برامج تلك الخطة أولا بأول بطريقة مدروسة وموثوقة ، وذلك أن المتربصين لقوى الأمة الإسلامية يدركون من أمورها وخفاياها وخباياها ومكنونات طاقاتها ، ومخزونات ومصادرها ومنابع قواها الظاهرة والخفية والروحية والمادية مما تدرك الأمة بحذافيرها علماء وباحثين ودارسين ، وزعمائها ورؤساء وحاكمين وشارعين ، ويتيقن أولئك الأعداء أن الأمة الإسلامية وقادتها وعلمائها إن أدركوا حقيقة تلك القوى ليقدموا استخدامها والاستفادة منها فإذا استخدموها واستفادوا منها لأنتجت أقوى الأمم على الأرض وأثقلها في ميزان الدنيا وأحسنها في منظار الحياة المثلى وأعلاها مكانة عند الله والناس أجمعين .
وهذه هي القوى الأربع الجبارة الخامدة تحت الأقدام اللخافية عن الإبصار بسبب أغشيتها الإبكار .
الأولى : الفوة الاستراتيجية حيث اختار الله سبحانه وتعالى لبعثة خاتم أنبيائه وإرسال أكمل رسالاته وأحكم كتبه ، منطقة هامة في كل المعايير تاريخيا وجغرافيا واستراتيجيا في المواصلات البرية والبحرية وحضاريا وثقافيا وروحيا ألا هي الجزيرة العربية التي تضم أول بيت وضع للناس على وجه الأرض وهو الكعبة المشرفة بمكة المكرمة وتقع بقعة مكة حسب كل البيانات السماوية والإرشادات وكذلك بنتائج الاكتشافات العلمية الحديثة في نقطة انتصاف الكرة الأرضية وفي وسط محورها بكل دقة وإتقان ، وفضلا عن أنها الآن في وسط القارات والممرات الدولية شرقا وغربا ، وبهذه الصفة المتميزة كانت بلاد العرب الذين كانوا طليعة أمة الإسلام وأصحاب الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم تتحكم في التجارة العالمية منذ أقدم العصور ، وبعد انبثاق فجر الإسلام وانتشاره في القارات الثلاث في عصوره الأولى قد تطورت أهمية العالم الإسلامي في التجارة الدولية والاتصالات العالمية ، والآن تملك الأمة الإسلامية قوة هائلة متحكمة في الموقع الاستراتيجي في العصر الحديث ، وهذه القوة الموقعية الاستراتيجية للعالم العربي من الخليج إلى المحيط وللعالم الإسلامي الواسع من المحيط الهادي إلى المحيط الأطلنطي تعطي لأمة الإسلام قوة دافعة مؤثرة في المجالات الاقتصادية والسياسية والحضارية العالمية ومن هنا قد خطط أعداؤها المدركون لهذه الحقائق الثابتة لتناسي المسلمين عنها وتغافلهم عن إدراك كنهها من ناحية وللسيطرة عليها كيدا ومكرا من ناحية أخرى ، وقد وقع العرب والمسلمون فعلا في هذه المصيدة بحيث لا يدرون وقد ضاعت من أيديهم سلطة التحكم فيه في الوضع الراهن في العصر الحاضر .
والثانية : القوة الاقتصادية التي هي اليوم عصب الحياة وقلب التيارات ومهد التطورات في عالمنا كله ، وتملك الأمة الإسلامية من المواد الخام ، والمصادر الطبيعية والثروات الأرضية من النفط والغاز والمعادن والخامات الأخرى ذات الاستراتيجية الهامة في صناعات العصر ، بحيث لا يوجد لها مثيل في أية منطقة في العالم ، وجدير بالذكر أيضا أن ثروات الأمة الإسلامية ما زالت في دور الاكتشاف وأن لها مستقبلا ميمونا ومزدهرا بكل الدلائل والبشائر ، ومن هذا المنطلق العام الخطير نرى الدول الاستعمارية كلها والقوى الاستغلالية بحذافيرها تشمر سواعدها وتخطط برامجها الشريرة علنا وخفاء سرا وجهرا للسيطرة على منابع هذه الثروات والتحكم في مصادر تلك الخامات والتقرب إلى دولها وشعوبها بكل الطرق الملتوية لكي يلفت أنظار أصحابها عنها ويشغل أذهانهم بغيرها لأنهم يعرفون جيدا ان انتباه أصحابها إلى تلك الكنوز واهتمامهم بامتلاكها وباستغلالها يجعلهم مستغنين عن التطلع إلى الغرب وعن الانبهار بغناهم ودنياهم ، ومن ناحية أخرى يؤدي إلى كساد احتكاره الكلي للشرق وهيمنته الشاملة على مصائر أممه وشعوبه .
وهذه حقيقة يجب وضعها في مقدمة الاعتبارات الأساسية .
الثالثة : القوة الروحية الكامنة المتمكنة في الوحدات الثلاث ، وحدة العقيدة ووحدة العبادة ووحدة الأخوة .
وفي إطار هذه الوحدات المتكاملة قد أصبحت الأمة الإسلامية ، منذ تكوينها الأول بيد أشرف الخلق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قوة قوية موطدة الأركان كبنيان مرصوص لأن شعار هذه الأمة في كل زمان ومكان وفي كل حين بل في حركات وسكنات كل لبنة من ذلك البنيان هو “لا إله إلا الله” وبقوة هذا التوحيد قامت وحدة العقيدة في كل عناصرها المتكاملة ، وأن قبلة هذه الأمة دائما هي بيت واحد وهو أول بيت وضع للناس وإليه أيضا يحج المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها في زي واحد بهدف واحد تحت شعار كلمة واحدة ، وبهذه الوحدة في معالم جميع العبادات الإسلامية تحققت قوة وحدة العبادة ، وأما وحدة الأخوة فهي أكملها وأشملها وأظهرها تحت شعارها الرباني البياني : “إنما المؤمنون إخوة” ، وقد جعلتهم هذه الأخوة “كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” فهل هناك حياة خاصة لعضو منفصل عن الجسم العام ؟ وهل يمكن أن يتصور عاقل أن يعيش كل عضو على حدة بدون التحامه مع سائر الأعضاء لذلك الجسم الذي يتصل به ؟ فما أروع تصوير حياة الأخوة بين أمة الإسلام !؟ وما أجدر أن يفهم ويعي ويدرك المسلمون هذه الحقيقة المرة ؟ أليس من المدهش أن أعداء الأمة الإسلامية قد أدركوها جيدا ووضعوها في حسابهم الدقيق الصافي المحقق من جانب المحاسبين القانونيين ، والمحللين ، ويعملون ليلا ونهارا وسرا وجهارا ، على هذا الأساس ، بينما يعيش المسلمون عنها غافلين ، أليس هذا وذاك من الخسران المبين ؟ .
الرابع : أما القوة الرابعة فهي القوة العددية أو الكمية لأمة الإسلام . ومع أن الاعتبار في مفهوم الإسلام للكيف لا للكم بمعنى أن الإسلام يولي الاهتمام على الكيفية لا على الكمية أشار إليه القرآن الكريم إذ قال : “كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ” (البقرة : 249) ، وكذلك كان المعيار دائما في الصراع بين الحق والباطل وبين المؤمنين الصادقين والكافرين والمنافقين ، الكيف لا الكم كما حدث في غزوة بدر ، وحادثة أصحاب الفيل ، فإن القوى البشريو لها اعتبار وقيمة في المعيار المادي وكذلك إذا أضيف إليها اعتبار الكيف أيضا ستكون نورا على نور ، وقوة على قوة وبالتالي تعد القوى البشرية لأمة الإسلام في العصر الحاضر عاملا هاما في ميزان الاستراتيجيات الدولية حيث يمثلون الآن ربع سكان العالم في مناطق هامة ومواقع استراتيجية وبمعدن النمو العام يتزايد عددهم وتفوق قواهم الحقيقية .