الخليج اليوم – قضايا انسانية – 11/9/1985
تناولنا بالتفصيل بعض ملامح المقومات الأصيلة للحضارة الإسلامية وعناصر الخلود فيها ، لأننا نرى اليوم الصهيونية وأبراقها المختلفة تقوم بدعايات مباشرة وغير مباشرة ضد أصالة الحضارة الإسلامية ومقوماتها ، وذلك للتشكيك في مقدرة المسلمين على السير مع التقدم العصري المتطور ولينحرفوا عن صيغة دينهم الأصيلة ، ويتأثروا بالعناصر الدخيلة ، وعندئذ تتحقق للجهات المغرضة الأهداف الخبيثة التي ترومها من وراء المؤامرات العديدة التي تحاك ضد الأمة الإسلامية وكيانها ومصائرها .
وأن المهتمين بتراث الأمة الإسلامية الحضاري والفكري يجدون أنفسهم أما حقيقة واضحة تسبب لهم الكثير من بواعث التأمل فإن الإسلام قد ظهر ، وما هي إلا فترة قصيرة حتى شمل شبه الجزيرة العربية جميعا ، ولم تمضي على وفاته صلى الله عليه وسلم وقت قليل ، ألا وأعلام الإسلام ترفرف على أنحاء شبه الجزيرة ، ثم خلفه خلفاؤه الذين حفظوا الدين والدنيا ، فإن هي إلا فترة وجيزة أخرى حتى رأينا الإسلام يخضع أعظم الأمبراطوريات التي عرفها العالم القديم .
بينما كان جنود الفتوحات يفتحون البلاد للدعوة الإسلامية ، كان جنود العلم يدونون العلوم المختلفة ويضعون القواعد ويرسونها لأقوى نهضة فكرية علمية عرفها تاريخ البشرية حتى عصرهم .
ولما قارب القرن الثاني الهجري على الانتهاء كانت العلوم العربية الإسلامية كلها أو جلها – قد وضعت أوصلها ومبادؤها ، وبنيت دعائمها على أسس متينة وأن حضارة فكرية تبلغ هذه الدرجة في تلك الفترة القليلة لهي حضارة قائمة على مقومات خاصة ، جعلتها تسبق حواجز الزمن لكي تصل إلى مدارج الكمال ، كما أنها حضارة جديرة بالبقاء ومسايرة مع تطورات العصر ومقتضيات الزمن .
إن الشيئ الذي يلفت النظر في هذا المضمار هو : كيف وصلت هذه النهضة الفكرية لدى العرب المسلمين إلى هذه الدرجة بهذه السرعة ! فإن الإسلام دين علم وحضارة ، وأنه قد أمد أتباعه بطاقة روحية جعلت منه ثورة حقيقية في جميع مناحي الحياة , وهو إلى جانب ذلك ، دين إيمان وعمل يجمع بين الحماس الروحي والإخلاص السلوكي كما أنه دين يخاطب العقل ويقبل الاجتهاد ، ويدعو إليه . ولم يبق أمامنا إذن ، لمعرفة هذه الحقيقة والرد على تلك الأضاليل ، إلا البحث في موقف القرآن الكريم ، إزاء “البحث والنظر” وإزاء “العلوم العقلية والكونية: وبدراسة موقفه في هذا المضمار يتبين لنا أن مدى حياة تلك العلوم وبقاءها بين الأمة الإسلامية كانت مرتبطة بمبلغ وقوف هذه الأمة على مبادئ هذا الكتاب الحكيم والتمسك بتعاليم الفطرية السليمة .
ونزل القرآن أول ما نزل في أمة أمية بعيدة عن المباحث العقلية والمسائل الكونية والطبيعية ، وقد ملكت قلوبهم أساطير آبائهم الأولين ، وما كانوا عليه من التقاليد والأوهام ، كما أشار إليه القرآن الكريم : “هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ” (الجمعة) . وكانت المهمة الأولى للقرآن تحرير العقول البشرية من رق التقليد الأعمى وإنهاضها وحثها في سبيل التفكير والنظر ، فحفز النفس البشرية لتقرأ صحف الطبيعة وتتدبر الآيات التي أودعها الله تعالى فيها .
وبفضل مساعي القرآن ابتدأ عهد “البحث والنظر” في أرض القرآن وولت في ظلة قيود الجمود والحجر الفكريين ، واستنارت البصائر وتحررت العقول فوطئت أمة القرآن معاقل الفلسفة والحكمة وعلوم الكون بعد أن ماتت أو كادت في كلل مكان ، وكان رائدها في ذلك إرشاد نبيها العظيم “الحكمة ضالة المؤمن” ، وقد علمتهم هذه الحكمة أن العلم ليس بعربي ولا عجمي ، وليس بشرقي ولا غربي ، فصار لأهل القرآن السبق في كل مضمار من شعب الحياة ، وعقدت لهم قيادة عامة في ميادين الحضارة والعلم والأدب والفن والسياسة والصناعة والزراعة ، فاغتنموا بفضل الإسلام ، الثروات العلمية والذخائر الفلسفية في بلاد العالم وترجموا إلى العربية ما كان موضوعا منها باللغات الأخرى ، وما زالت الأمة الإسلامية تمسك بزمام الأمور في هذا المجال ، مادامت تتمسك بأصول التراث وتعاليم نبيه ، عن فهم وإدراك ، ولم تتخلف هذه الأمة قليلا عن ركب التقدم العصري إلا بعد أن أغرقت قليلا في صبغة دينها الأصيلة وشابتها العناصر الدخيلة .