الخليج اليوم – قضايا إسلامية – الثلاثاء 17-يونيو-1986 م
لقد وضع الإسلام معيار التفاضل بين الناس على أساس العلم النافع والعمل الصالح ، لأعلى أساس أي اعتبار آخر مادي أو دنيوي ، من اللون والعنصر والوضع الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي وما إلى ذلك من الأمور الخارجة عن الفطرة الإنسانية الخالصة وليس لها دخل في اختيار الإنسان من حيث هو إنسان مع أن بعض الميزات التي يكسبها الإنسان بجهوده الذاتية مثل الأموال والجاه والسلطة والزعامة ما هي في الواقع إلا أعراض غير ثابتة ولا يكسب منها صاحبها ثمرة أو فائدة حقيقية إلا من خلال أهدافه منها ، وطريقة استخدامها للصالح العام ، والنية الكامنة وراءها وكلما وجهها إلى وجهة صالحة وبنية صالحة تكون لصالحه وإلا فتكون وبالا عليه ، ومن هنا وضع الإسلام قاعدتين أساسيتين لتفاضيل الإنسان على أخيه الإنسان ، ألا وهما العلم النافع ، حيث صرح القرآن : “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون” ، ثم قال : “ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا” . وبالنسبة إلى القاعدة الثانية للتفاضيل يقول القرآن الكريم : “إن أكرمكم عند الله أتقاكم” . كما صرح النبي صلى الله عليه وسلم : “لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى” .
الروح العلمي في الإٍسلام
إن الإسلام قد رفع شأن العلم والعلماء بما لا يوجد له مثيل في تاريخ الأمم والشعوب والمدنيات والحضارات ، وقد ذكر القرآن الإنسانية كلها بأكبر نعمة أنعم الله بها على الإنسان إذ يقول في كتابه الحكيم : “واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة” . ووردت آيات كثيرة في القرآن تحت على البحث والنظر والتفكير في الكون الذي يعيش فيه الإنسان ، وفي ظواهره المختلفة ، ومن هذه الإرشادات والتوجيهات الربانية قد اغترف المسلمون الأوائل أصول ثقافتهم وحضارتهم .
وانطبعت حياتهم بطابع النظر والفكر والاختراع والاكتشاف وتحصيل العلوم والمعارف من كل مكان ومصدر وظرف ولسلن ، واشتغلوا بهذا الدفع القرآني والإرشاد النبوي ، بالعلوم الكونية على اختلافها ومنها : الجغرافيا والكيمياء والطبيعة والفلك والطب والرياضيات ، وهذا كله إلى جانب علوم التفسير والحديث والفقه والتاريخ وغيره من العلوم النظرية حسب الاصطلاح الحديث .
وكان القرآن الدافع الروحي والينبوع الأصلي للتقدم العلمي لأمة الإسلام ، وكان الإسلام دائما وأبدا يدعو إلى بناء حضارة تقوم على العلوم النافعة والأعمال الصالحة ، وأن هذه الحضارة تحمي الحضارات الإنسانية النافعة كلها ، سواء أكانت أصولها ترجع إلى زمان ومكان أو شعب ، ولهذا كانت الحضارات التي قامت قبل البعثة المحمدية في الشام ومصر والعراق والهند والصين وغيرها محل تقدير واحترام لدى العرب المسلمين ، وترجموها إلى العربية وأضافوا إليها إضافات نافعة ومكملة ، وقد ازدهرت الجوانب الصالحة الإنسانية من تلك الحضارات القديمة تحت ظل الرعاية الإسلامية وعناية حكام وعلماء الإسلام في كل مكان .
وكان من ميزة الحضارة الإسلامية ، إنسانية الحضارة وإزالة جميع الحواجز المصطنعة بين إنسان وإنسان على أساس الاعتبارات الوهمية ، وإن أسطع مثال على ذلك تلك النظرية القديمة اليونانية التي تنسب إلى أرسطو نفسه حيث قيل إنه قد صرح ما معناه أن العبد شيئ من المتاع ويشبه أثاث المنزل ! غير أن الحضارة الإسلامية قد حاربت هذه النعرة الخاطئة وأزالت هذه الفكرة غيرر الفطرية من أذهان البشر ، واعتبرت الناس كلهم متساويين كأسنان المشط .
كرامة الإنسانية
وتحدث الكاتب الغربي المعروف “هاريسون” في كتابه : العرب في وطنهم” عن الاعتبارات الإنسانية في الحضارة الإسلامية وكرامة الفرد وقيمته في المجتمع فقال ما نصه : “فحيث حل الإسلام تأكدت قيمة الفرد ، ونهض الناس معتزين بكرامة لا تقهر” ، وكان في مقدمة ميزات الحضارة الإسلامية التسامح الديني باحترامها لأصحاب العقائد الدينية الأخرى ، ونالوا في ظل هذه الحضارة كل حرية وسهولة ليمارسوا شعائر عقائدهم وتعاليم مذاهبهم ونشر ثقافاتهم ، وكذلك من ميزاتها : “العدالة الاجتماعية حيث ألغى الإسلام نظام الطبقية بين البشر والتفرقة بين المجتمع الذي يعيش في ظل حكم الإسلام ، فكان علماء الديانات الأخرى يترعرعون ويتفوقون في الدولة الإسلامية .