الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 25-سبتمبر-1986
إن من الأمور المعلومة عقلا وشرعا لدى العقلاء وأولي الألباب في كل زمان ومكان ، أن لهذه الكون خالقا قادرا ، وحكيما ومدبرا وقد أعطى لكل شيء خلقه فقدره ، ووضه الميزان الدقيق لكل جزء من كائناته في السماوات والأرض ، وخلق النواميس الفطرية وحدد القوانين الطبيعية لسائر المخلوقات بحيث لا تبديل لها ولا تغير في كل ذرة وقطمير ، وإلى هذه السنة الإلهية الأزلية في خلقه وتدبيره يشير رب العالمين بقوله :”فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا” (فاطر: 43) ، ثم خلق الإنسان فسواه ووضع لع فطرة خاصة لا تبديل فيها ولا تغيير إلى يوم الدين فقال :”فطرة الله التي فطر الناس عليها ولا تبديل لخلق الله” (الروم ) ، ثم شاءت إرادته العلية برحمته الواسعة وبمحض فضله الكريم ، أن يبعث رسله بمنهج إلهي واضح جلي لتنظيم حياته على وجه الأرض طبقا للفطرة التي فطرهم عليها لئلا يضلوا ولا يشقوا ولينالوا مرضاة ربهم وليدخلوا جنته التي أعدت للمتقين من عباده المؤمنين المخلصين ، وإلى هذه المنة الإلهية الخالدة أشار رب العزة فقال :” ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ، فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة” (النمل : 36) ، ثم قال :”وما كانا معذبين حتى نبعث رسولا” (الإسراء : 15) وهكذا استمرت حلقات النبوة والهداية الربانية لكافة البشرية في جميع الأزمنة والأمكنة رحمة من رب العالمين ونورا وهداية للمتقين المؤمنين ، وكانت غاية تلك الحلقات كلها تزكية النفوس وإخراجها من الظلمات إلى النور وإلى صراط الله العزيز الحميد وهو الصراط المستقيم الذي ارتضى لعباده الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .
في نور القرأن
ولما اكتمل الرشد الإنساني وجاء الأمر الرباني لاختتام سلسلة الرسالات السماوية وحلقات النبوة اصطفى رب العالمين خاتم رسله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم رسولا عالميا لكافة الثقلين إلى يوم القيامة وأنزل عليه دستورا شاملا وخالدا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن بجوامع الكلم فقال :”كتاب الله تبارك وتعالى ، فيه نباء ما قبلكم وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينك هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار فضحه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، ونوره المبين ، والذكر الحكيم ، والصراط المستقيم ، وهو الذي تزيغ به الأهواء ولاتلتبس به الألسن ، ولا تتشعب معه الآراء ولا يشبع منه العلماء ، ولا يمله الأتقياء ، ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه ، من علم علمه سبق ومن قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم” (رواه الترمذي) .
وقد وصف الله سبحانه وتعالى بعض الصفات المميزة للقرآن الكريم في محكم كتابه نفسه فقال :”وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين” (الإسراء : 82) وقال في معرض ذكر الموسم الذي أراد الله فيه أن يبدأ نزوله : “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان” (البقرة : 185) وقد خص خالق البشر والقوى القرآن الذي اختاره دستورا خالدا للإنسانية كلها في جميع مواقف الحياة البشرية ، في الآيتين المذكورتين بخمس صفات مميزة جليلة القدر وعظيمة الأثر يجب أن يعيها كل إنسان عاقل يؤمن بخالق السماوات والأرض وهداية رسله ورسالة كتبه المنزلة عليهم ، وعلى أن يرتب سلوكه مع هذا الكتاب في ذوء ذلك الوعي السليم والفهم الصحيح وهي الشفاء والرحمة والهدى والبينات والفرقان ، وتشير صفة الشفاء إلى أنه دواء إلهي فطري للإنسان من جميع الأمراض النفسية المسيئة الخفية والظاهرة لأن كلمة شفاء وردت بصفة التعيم والإطلاق بعموم الفكرة دلالة على أنه دواء عام يشفي جميع الأمراض علما بأن علماء النفس مجمعون على أن أعراض الأمراض البدنية المنسبة فمنشائها الأصلي الاضطراب الروحي والقلق النفسي وأن اطمأنان القلب بالإيمان وهدوء النفس بالسعادة القلبية والروحية وأن هذا أو ذاك بمثابة تحصين ضد الأمراض الجسمية وشفاء البشرية .
وأما “الرحمة” فإن القرآن قد فتح أمام الإنسان المؤمن أبواب الخير كله في حياته الدنيا وحياته الأخرى وينير له الطريق إلى مرضاة ربه ونيل ثوابه ودخوله جنته ، ويكون له حصانة أكيدة ضد الحسارة في شؤون الحياة فهل هناك رحمة له أكبر وأنفع من هذا المنهج الرباني القويم ؟ وإلى كونه “الهدى” لكافة الناس حيث جاء التعبير عن هذه الصفة المميزة “هدى للناس” بالإطلاق والعموم أي جميع الناس بصرف النظر عن الاختلافات الجنسية واللغوية واللونية والقومية والقبلية والزمنية والمكانية وكذلك وردت في نفس التعبير الإلهي عمومية الهداية ولا شك في ذلك ولا غرو لأن نزول القرآن كان بداية لتحقيق الصلة بين السماء والأرض يعد فترة طويلة من الانقطاع وحياة الناس في الضلال والتيه والشتات والفرقة وفي الجاهلية والخرافات ، وإلى هذه الحقيقة يشير القرآن حيث طال أمد الجاهلية في انقطاع صلة السماء بالأرض ، حتى تسرب النسيان إلى بعض الأذهان عن رسالات الأنبياء السابقين فقال : “وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا” (الإسراء : 94) .
وأما صفة “البينات” فإن فيه تبيان لكل شيئ وتفصيل لكل ما هو ضروري ولا زم من الأحكام والأوامر والنواهي والأنظمة والتعاليم للإنسان في شتى مجالات الحياة بحيث لا يضل ولا يشقى ، وأن القرآن يقدم للإنسانية في جميع أطوارها ومراحلها وأمصارها وأزمانها المنهج الواضح الجلي بدون خفاء ولا غموض في أي بند من بنوده وأي أمرمن أموره ومن صارت قوانينه وتعاليمه وأحكامه ومتصفة بصفة “البينات” أي هي واضحة بنفسها وموضحة الطريق إلى غيرها .
والصفة الخامسة الأخيرة هي “الفرقان” تشير إلى أن القرآن هو الذي يعطي صاحبه القدرة على إدراك الحق وإبصار الطريق القويم ، والتفريق بين الخير والشر والتميز بين الحق والباطل والنور والظلام في مسالك الحياة وهو يجعله لدى ببصره في القرآن وببصيرته في معانيه هدى لله ورسوله وكلما تقوى فيه ملكة الفرقان يمشي في طريق الرحمن وفي نور القرآن الذي وصفه الله تعالى : “وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا أو نذيرا” (الإسراء : 105) .
الإسلام دين الفطرة
إن الدين الذي شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده وجعله منهجا لهم في حياتهم الدنيا عى وجه الأرض وضمنه ودستوره الخالد المنزل على خاتم الأنبياء والرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم باسم “القرآن” نورا وهدى وفرقانا إنما هو دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها بمعنى أن لن يوجد تعارض أو تناقض أو تصادم بين النواميس الفطرية أو بعبارة أخرى القوانين الطبيعية الأصيلة القويمة وبين المبادئ والتعاليم القرآنية لأن مصدر كل منهما واحد ألا وهو الخالق الباري تعالى وهو فاطر السماوات والأرض وما بينهما وواضع الموازين والأنظمة النواميس الخاصة بها وهو الذي أنزل القرآن هدى ومنهجا لتنظيم حياة الإنسان طبقا لفطرته التي فطره عليها فما دام خالق الفطرة ومالك القرآن هو الخلاق العليم لا يمكن تصور احتمال وقوع أي تناقض بينهما وتأكيد أو توضيحا لهذه الحقيقة الكونية أمام العالمين جميعا يقول رب العالمين : “فأقم وجهك للدين حنيفا ، فطرة الله التي فطر الناس عليها ولا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون” (الروم : 39) .
فثبت من صريح الآية أن التعاليم القرآنية كلها تتمشى تماما مع القوانين الفطرية السليمة فإذا أخذنا أي حكم من أحكام القرآن نجده مطابقا كل التطابق مع الطبيعية الكونية البشرية وعلى سبيل المثال فإن القرآن يدعو إلى الصدق في كل شيء وينهى عن الكذب ، وأما الصدق أن يقول الإنسان عن الشيء طبقا للواقع بمعنى وضع الشيء في موضعه وهذا هو عين الفطرة السليمة وإذا حال خلاف الواقع فهو وضع الشيء في غير موضعه وهو خلاف الفطرة والطبيعة وكذلك يدعو القرآن إلى شكر الله تعالى وعبادته فإن شكر المنعم من مقتضى الفطرة والطبيعة فأما الخالق الباري الذي خلقنا ومنحنا الحياة ورزقنا الطيبات وأسبغ علينا بما لا يحصى من الآلاء والنعماء فالتوجه إليه بالشكر والحمد من صميم مقتضيات الفطرة السليمة والأغراض عنه كفران نعمته ونسيان كرمه مخالف لنواميس الطبيعة .
وهكذا نجد جميع التعاليم والإرشادات القرآنية إرجاع للإنسان إلى متطلبات فطريته السليمة ، وهداية له إلى طريق الطبيعة الأصلية كلما ينحرف عنها بسبب الغفلة أو الجهل أن النسيان أو إغواء الشياطين أو تحت وطأة أهواء النفس الساذجة التي تنخدع بمغريات الشهوات والملذات فكل هذا وذاك انحراف وخروج عن جادة طريق الحق وهو الفطرة السليمة فيمكن أن يقال ببعض التجاوز والتطرف إن الإسلام الصحيحة هو الفطرة الصحيحية وأن الفطرة لصحيحة من الإسلام الصحيح لأن مصدرها واحد هو خالق الكون وهدفها واحد وهو تقويم الإنسان ، وذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ! .
تزكية النفوس
ويقول الله سبحانه وتعالى مبينا غرض البعثة المحمدية :”هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليه آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين” (الجمعة) ، وقد بعث الله تعالى خاتم رسله في الأميين لنقلهم من الجاهلية إلى الحضارة الإسلامية ومن الضلال المبين إلى النور المبين .
وقد بين سبحانه وتعالى أربع وسائل لتحقيق تلك النقلة الحضارية الإسلامية الإلهية النيرة وهي : تذكيرهم بآيات الله – وهي عامة في التعبير سواء الآيات القرآنية والآيات الكونية – لتبصرهم بعظمة خالق الكون ورحمته وحكمته حتى تنفتح قلوبهم وتنشرح صدورهم وتتنور أبصارهم ، وكذلك تزكيتهم بالتربية النفسية والثقافة العلمية والأخلاق الفاضلة ثم تعليمهم الكتاب وهو يشمل القرآن وبيانه النبوي بالقدوة العملية والنصائح القولية وأخيرا تعليمهم الحكمة لأن الحكمة هي التي تحمي كل ما أخذوا من قبل من التربية والتزكية والتعليم لأن من أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا .
وأما الوسائل الإلهية والأساليب القرآنية التي أرادها الله تعالى لنبيه لنقل قوم من الضلالة إلى النور ومن الجهالة إلى الهداية ومن الجاهلية إلى الإسلام إنما هي تزكية النفوس وتعليمها وتثقيفها حتى تزول عنها ضلالات الماضي وتنقلب من قوم ضالين إلى قوم صالحين ولم يرد في هذه الآية الواضحة الجلية ذكر لأساليب الشدة أو التخويف أو التهديد في معرض بيان طرق الإصلاح والإرشاد والدعوة إلى الصراط المستقيم ، وبعد هذه الإشارة القرآنية التي اقتبسنا من نورها قبسا لمعرفة وسائل الدعوة إلى الله وعملية إصلاح الناس ونشر الدعوة والإرشاد بين الناس نقرأ مزيد من الإرشادات الإلهية التي اختارها رب العباد لأكرم الرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لأداء مهمته ومنها قوله تعالى :”لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ” وقوله :” وما على الرسول إلا البلاغ المبين” (العنكبوت)، وقوله كذلك :”وإن تولوا فإنما عليك البلاغ” (آل عمران : 20) ، وقوله أيضا :”فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر” (الغاشية : 21) ، وقال :”فأنذر بالقرآن من يخاف وعيد” (ق : 45) ، ثم يقول محذرا ومبينا :”أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” (يونس : 99) .
وإن هذه الإرشادات القرآنية تبين الطريق الحكيمة الصحيحة لإبلاغ الدعوة وإصلاح الناس ونشر التعاليم الإسلامية في العالم وتلخص هذه الطريقة في الأخذ بيد الناس إلى الخير ، بالحكمة والموعظة الحسنة وبكل وسيلة هي “أحسن” بنص قوله تعالى :”ادع إلى سبيل رلك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن” (النحل : 125) ، وكذلك يجب أن يكون الرد والدفع بالتي هي أحسن فيقول تعالى “ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم” (فصلت : 34) .
لا إكراه في الدين
عرفنا أن الإسلام دين الفطرة وأنه يدعو إلى الإكراه والإجبار والإغراء في أي مجال من مجالات الحياة البشرية وخاصة في مجال العقائد والمذاهب والأفكار لأن مقرها القلب ولا يمكن تغييره ولا التأثير فيه بقوة السلاح وأسلوبه الإكراه ولا سلطان لأحد عليه إلا بالاقناع والإرشاد وبأسلوب الحسنى والتفاهم ، أن أي خروج عن هذه الأساليب القرآنية فإنما هو خروج عن الطرق الطبيعية الوسائل الإنسانية الصحيحة وتكون نتائجها عكسية ويكون ضرها أكثر من نفعها في ضوء التاريخ والواقع .
وأن الصفة اللازمة بالمرتبة الأولى لدعوة الناس إلى الإسلام ونظامه الفطري إنما هي الحكمة التي اقترن ذكرها من إنزال الكتاب حيث قال رب العزة والجلال : “وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ” (النساء : 113) ، ويدل هذا الاقتران القرآني بين الكتاب والحكمة على تلازم الحكمة في فهم القرآن وإبلاغه للناس وهي الصفة الأولى أيضا في عملية الدعوة إلى الله تعالى إذ أمر بها قوله :”ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة” (النحل : 125) ، فأول ما يحتاج الداعية إلى دعوة الإسلام وتعلم القرآن ومصلح الإنسان هو التحلي بالحكمة التي أرادها الله عز وجل وأشار إلى فضلها وميزتها فقال : “ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا” (البقرة : 269) .
وإن هذه الآية القرآنية وتلك الهداية الربانية وهذه اللفتة الإلهية جديرة بأن تكون محل اعتبار أولئك الذين ينصبون أنفسهم في مجال الدعوة إلى الله وإلى كتابه وإلى دينه لأن مدار نجاحهم في مهمتهم منوط بمدى اكتسابهم هذه المحنة الإلهية الفطرية والالتزام بها في جميع مراحل عملية التبليغ ومهمة الدعوة وإن أي انحراف عن أساليب الحكمة التي هي الصفة المتلاحقة بإزال الكتاب والشريطة الأولى الأساسية لإبلاغ الدعوة بنص القرآن وهي حقيقة لا تخفى عن من له دراية بمفاهيم كتاب الله ومناهج رسل الله ، وفيما بلى نموذجا لاستخدام أسلوب الحكمة في مجال الدعوة والإرشاد ، من الرسول الأسوة الحسنة في مجال الدعوة ومنهجها وهو المبعوث من رب الكائنات لأداء هذه المهمة ، وقد أدبه وأحسن تأديبه وكلفه بإبلاغ الدعوة إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا فمن هو أقدر منه على تقديم أحسن النماذج وأفضل البرامج وأوضح الأمثلة في هذا المجال وقد قدم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أسلوبين هامين أساسيين في سبيل إبلاغ دعوة الله تعالى بين الناس ونشر دينه الفطري القويم في خلقه فأولهما : مخاطبة الناس على قدر عقولهم لأن عمليات تغيير النفوس وهو الهدف المنشود من دعوة الإسلام لا تتحقق إلا بفتح القلوب أولا وأن التغيير الذي سيحدث أحيانا بنفوذ المال أو الجاه او السلطان أو القبول الذي يظهره البعض أمام أساليب الإرهاب أو الإكراه أو الإجبار لا يتعدى الألسنة والأفواه ولا يستقر في القلوب والأفئدة .
وكان الصحابة الكرام رضي الله عنهم المثل الأعلى في استخدام هذا الأسلوب النبوي في دعوة الناس إلى الحق والخير ، وقد روى عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول دائما :” خاطبوا الناس على قجر عقولهم ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله” لأن الأمور إذا لم توضح بمواضعها وتوزن بموازينها فتضيع الحكمة وتفشل المهمة وربما يكون ذلك الانحراف سبب للتنفير والتكذيب من عامة الناس وجماهير الشعوب لأن هذه القطاع من البشر تكون عادة بعيدة من الرؤية الدقيقة والفهم العميق وأن وسائل البيان والبلاغ هي التي تجلب ألبابهم وتفتح قلوبهم إلى الخير الذي يدعون إليه ، وقد كان الإرشاد النبوي لمعبوثيه وأصحابه دائما : يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا” (متفق عليه) .
وأما النموذج الأساسي الثاني قدمه الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في مجال تبليغ الدعوة وإرشاد الناس إلى الحق والخير فهو التدرج في التربية فلا يخفى على من له أدنى إلمام بقانون التربية النفسية وأصول علم النفس الأساسية أن تدريب الناس على القيام بالأعمال المطلوبة والمهام المنشودة بالتدرج أوجب الواجبات وألزم اللوازم لتحقيق النتائج المرموقة والفوائد الجمة لأن أسلوب التدرج يعطي الفرصة أمام المدعوين للنظر والتدبر واستبيان حقائق الأنوار واستقرارها في الأذهان وجدير بالذكر في هذه المناسبة أن رب العالمين ورب هذه الدعوة قد درب رسوله الأمين على أسلوب التدرج في مجال الدعوة إلى الله تعالى ونشر دينه القويم بإنزال القرآن منجما ومفرقا خلال ثلاثة وعشرين عاما تثبتا لفؤاده وتعميقا لمعانيه وتسهيلا على حفظه وصونه في الصدور والسطور ، وفي ضوء هذا التدرج في الجوانب التربوية الإلهية الفطرية مكث الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاما يدعو الناس إلى دين الله ويبلغهم رسالته وكان يسلك ذلك المسلك الرباني الفطري لكي يستبين الناس صورة الإسلام ودعوة الحق بأدلة عملية وقدوة مثالية وقناعة قلبية ، وكان ذلك كله لتدريب أمة الإسلام على نظام التربية وأسلوب الدعوة والا فكان رب العالمين أقدر على إنزال القرآن مرة واحدة وإكمال الرسالة دفعة واحدة وهو القادر المطلق والخلاق العليم وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فصدق الله العزيز الجبار وأن في ذلك عبرة لأولي الأبصار في كل الأزمنة والأمصار .
وقد تجلت حكمة التدرج وقدرة مخاطبة الناس على قدر عقولهم في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم ، وكانت ثمرات هذه الحكمة تهيئة المناخ السليم لانتشار دعوة الإسلام في أنحاء الجزيرة العربية وجواليها خلال فترة وجيزة على الرغم من بعد المسافات وشق الرحلات وكثرة المعضلات وشدة المعارضات والمقاومات .
وينبغي لنا في هذه الصدد الذي نحن فيه من إلقاء الضوء على نماذج الحكمة في أساليب الدعوة من الرسول القدوة عليه الصلاة والسلام ، أن نذكر مثالين خالدين من المسالك النبوي في نشر الدعوة أولا : ما كان أبغض للرسول صلى الله عليه وسلم من الأصنام التي تبعد من دون الله ، وقد ملأ عرب الجاهلية مكة بأكثر من ثلاثمائة وستين صنما وكانوا يكفون عليها ليلا ونهارا، ومع ذلك لم يتعرض لها بالهدم أو الكسر أو السب أو الشتم ومكان رائدا في ذلك إلى جانب استنارة الحكمة واستنباه البصيرة قوله جل وعلا :”ولا تسبوا الذين كفروا فيسبوا الله عدوا بغير علم” فإذا كان الإسلام يمنع المؤمنين منعا باتا من سب وامتهان الكفار الخصماء علنا مثل مشركي مكة وكفار قريش في مكة حينذاك فكيف يستبيح أحد من المؤمنين توجيه السباب والشتائم إلى آلهتهم وأصنامهم دائما ومصنوعة بعض الأنبياء والأولياء والرجال الصالحين وإنها تمثل صورهم وتماثيلهم فليس من الحكمة من شيء أن توجه إليها الألفاظ النابية والسباب والشتائم جزافا ولكن الحكمة تتطلب إلى بيان خطورة عبادة هذه الأوثان من دون الله أو الإشراك بها مع الله والأخذ بيد الناس إلى الحق والخير وإثبات