الخليج اليوم – قضايا إسلامية الأربعاء 22-أكتوبر-1986 م
إن من الإرشادات الإلهية الحكيمة في القرآن الكريم الذي جاء هدى للناس في جميع مجالات الفكر والنظر والعمل والفعل والقول والقراءة والكتابة بل وفي كل حركاتهم وسكناتهم ، وشفاء لما في صدورهم ، ونورا بين أيديهم ومن خلفهم قوله عز وجل ، بكل إعجاز وإيجاز ، وإمعان وإتقان في سورة يس : “إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم ، وكل شيئ أحصيناه في إمام مبين” (12) . وقد جاء هذا التنبيه الإلهي إلى الآثار المترتبة على أعمال الإنسان ونتائجها بعيدة المدى بعد أن ورد ذكر قصص الأمم والأقوام السابقة ، والآثار التي خلدها تاريخها للأجيال التالية لكي تتخذ منها العبر والعظات لبناء حاضرها ومستقبلها وتفادي أخطاء الأمم الماضية والاستفادة من سلبيات وإيجابيات تجاربها فقال تعالى قبل بيان هذه القضية الربانية في خلقه وكونه وشأنه أي تدوين وتسجيل ما قدم الناس وآثارهم المترتبة على ما قدموا من الأعمال إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وإن إيجابا فإيجاب وإن سلبا فسلب : “أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة ، وما كان الله ليعجزه من شيئ في السماوت ولا في الأرض إنها كان عليهاقديرا” (فاطر : 44) .
إنما تدل هذه الآيات أن أعمال الإنسان تنتهي بانتهاء حياته على وجه الأرض ولكن آثار تلك الأعمال ستبقى على وجه الأرض نفسها في صفحات التاريخ والذكرى بحيث تنتشر تلك الآثار في مساحات وآفاق أكثر وأوسع ، وتنطق تلك الآثار كذلك عن الأعمال التي انبعثت عنها أو تولدت منها ، ولهذا نرى تفاصيل تلك الأعمال المنقضية ماثلة أمام أعيننا عندما نشاهد أو نقرأ الآثار المتبقية لها ، وأن الدرس الذي يعطي القرآن للإنسان من خلال ذكر هذه القضية الفطرية هو أن الإنسان مسؤول عن عمله وعن آثار ذلك العمل فإذا فكر الإنسان في أن يعمل شيئا ، في أي مجال كان ، ينبغي له أن يفكر في النتائج التي سوف تترتب على ذلك ، في المستقبل القريب والبعيد ، وخاصة إذا كان ذلك العمل هو الأول في نوعه أو بداية سلسلة من أمثاله فلا بد من رجوع جزء من آثار ذلك البدء إلى من افتتحه لأول مرة ، وقد بين القرآن هذا المبدأ في عدة آيات بينات واضحات .
فكأنما قتل الناس جميعا
وقد حكى الله سبحانه وتعالى قصة ابني آدم – هابيل وقابيل – وقتل قابيل هابيل ثم أشار إلى أن ذلك القتل الأول في تاريخ الإنسانية قد فتح بابه في بني آدم وترك أثره فيهم فصار ذلك الأثر أيضا من مسؤوليات المرتكب الأول فيحاسب على عمله وأثره أيضا ويعاقب عليهما فيقول تعالى : “واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلك ، قال إنما يتقبل الله من المتقين ، لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين ، إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار ، وذلك جزاء الظالمين ، فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين ، فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه اقل يا ويلتي أعجزت ان أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين ، من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون” (المائدة : 27-32) . وأن هذا الحكم ينطبق على كل من يرتكب جريمة تترك آثارا بعيدة المدىأو يخترع جريمة جديدة لم يسبق لها مثيل فإنه عرضة للمحاسبة عند الله يوم الحساب عن ذلك العمل وعن كل آثاره .
الإنسان مسؤول عن فساد أولاده جيلا بعد جيل
إذا لم يحسن شخص تربية ابنه – مثلا – وقد فسد ذلك الابن بسبب والده وترتب عليه فساد أحفاده منه ثم أولادهم بعد ذلك الجيل فيعود القسط الأول والأساسي من آثام ومفاسد هذه الأجيال ، إلى الذي بذر البذرة الأولى من بذور الفساد الذي تتابع عليه جيل بعد جيل ، وقد أكد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم هذا الحكم بكل وضوح وبجوامع الكلم : “ليس من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل” (متفق عليه ) .
فليحذر الذين يفسدون أولادهم
ويكفي لكل إنسان عاقل لأن يفهم جيدا مزالق ومهاوي الانحلال والانحراف في حياته الشخصية في مستقبل أولاده وأحفاده لأنهم بمقتضى الحال يتخذون منه قدوة في تلك العادات السيئة ومنهم تتعدى جراثيمها إلى كل من يتصل ويلحق بهم فتكون من آثاره التي تكتبه الملائكة المكلفون بتسجيل ما يقدمه الإنسان وآثاره بنص قول رب العباد “ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيئ أحصيناه في كتاب مبين” ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم :” ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئ” (رواه مسلم) .