بمناسبة قدوم رمضان المبارك
السلف الصالح اتخذوا رمضان فرصة لجلائل الأعمال وعظائم الفتوحات
والخلف الطالح اتخذوه عرضة لسخافات الفوازير ومتاهات السهرات
الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 16-أبريل-1987 م
لقد خلق الله تعالى الكون والكائنات بإرادته ووضع لكل شيئ الميزان بحكمة وجعل قانون الأسباب والمسببات نظام الكون وفطرته بمحض مشيئته ، وجعل الحركة والعمل معيار النجاح في حياة العباد والكسل والركود مدار الضياع في كل زمان ومكان بحكم النواميس الفطرية والقوانين الطبيعية ، وبمقتضى هذا القانون الفطري الإلهي قد جاء العمل والنشاط من موجبات بناء الأمم وتقدم حياتها وتحقيق آمالها كما صار الكسل واللهو واللعب من موبقات الهدم والتخلف وقد أدرك المسلمون المؤمنون من السلف الصالح الذين نظروا إلى الأمور بعين الجدية والغاية أن هذه الدنيا دار العمل ولا مكان ولا مقام فيها للكسالى والهازلين ، واتخذوا شهر رمضان الذي بدأت فيه صلة السماء بالأرض بنزول أول وحي من أكمل الرسالات الإلهية على أشرف الرسل وخاتمهم لبناء خير أمة أخرجت للناس ، واتخذوا فرصة للتزود بالشحنات الروحية للقيام بأعمال جليلة فضربوا المثل بالفتوحات العظيمة في هذا الشهر العظيم مثل “بدر الكبرى” ،و “فتح مكة” ، واعتبروا كل لحظة من هذا الشهر الجليل من الجواهر النفسية التي لا تقدر بثمن ولا يوجد لها مثيل ولا بديل ، وأين منهم اليوم خلفهم ؟ .
لقد أنشأ الإسلام المحطة الرمضانية الزمنية الهامة في حياة المؤمنين الذين خاطبهم الله سبحانه وتعالى لفريضة الصيام ، لربطهم بالله عز وجل وبرسالته التي أنزلها فيه ، وليخرج الصائمون منه مزودين بشحنات كافية لرحلتهم الطويلة الشاقة خلال مدار السنة كلها ، ومادام المؤمنون الصائمون يخرجون من هذه المحطة الرمضانية أقوياء الجسد والروح ليستأنفوا رحلتهم الزمنية بنشاط المؤمن القوي الواثق بالله وباجتهاد القادر على اجتياز مراحل ما بعد هذه المحطة بقوة وصمود وهمة ، وهذه العبادة تمتاز عن العبادات الأخرى بكونها سرا بينه وبين ربه كما ورد في حديث البخاري إذ قال الرسول الأكرم : “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به” ، والصيام جنة “أي وقاية” ، وأن الصائم يقي خلال رمضان جميع أنواع الصفات الذميمة ويتزود بكل الصفات الحميدة فصار رمضان محطة التطهر من السيئات والتزويد بالحسنات .
بماذا يتزود المؤمن من رمضان ؟
إنما يتزود المؤمن من رمضان بشحنات عديدة من الطاقات الروحية والصحية والنفسية وإنه يشعر أولا أن معاملة الصوم تجري سرا بينه وبين الله ، لا ثالث بينهما ، ويكون بعيدا عن كل شوائب الرياء والتظاهر لأنه أمر خفي بين خالقه وبينه بخلاف العبادات الأخرى .
وهذا ما أشار إليه بعض العلماء في بيان حديثه صلى الله عليه وسلم :”يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي فالصيام لي وأنا أجزي به والحسنة بعشر أمثالها” (رواه البخاري) . وهذا هو سر نسبة الصوم إلى الله تعالى في نص الحديث .
وأن المؤمن الذي يترك أهم أسباب حياته وهو الطعام ويترك أهم المتع التي يمتع بها نفسه مما أحل الله وهي في متناول يده فيقهر بذلك نفسه وجسده إرضاء لله عز وجل ، فهذا الصائم جدير بتكريم الله تعالى ، وهذه هي الناحية الروحية التي ركز عليها الإسلام أكثر من الناحية الجسدية والصحية وإلى جانب تزويده بهذه الطاقة الهائلة من قوة الإيمان وقوة الإرادة وقوة العزيمة يتزود بقدر كاف من طاقة الأخلاق الفاضلة .
إن الصائم المؤمن يتزود من المحطة الرمضانية بطاقات نفسية لتقوية بناءه الداخلي وتتكامل شخصيته فإذا كان يتقرب إلى الله تعالى بالطاعات فعل الخيرات ويتدارس القرآن ويتلوه ويصلي ويذكر ويسبح ليلا ونهارا سرا وجهارا طوال أيام وليالي هذا الشهر المبارك فتشحن نفسه بقوة الإيمان وبالقدرة على اجتياز الصعاب في معركة الحياة ويتمكن كذلك من الصمود أمام مغريات الدنيا وزخارفها وأمام دعوات الميوعة والانحلال ، ولا يؤذي أحدا ولا يبدد أمواله في سبيل المحرمات واللغو واللهو لأنه خرج من محطة رمضان بشخصية قوية جادة متينة خلقا ومعاملة ولا يرضى بالحياة الشريفة النزيهة بديلا وأما الذين يتبارون في رمضان في إكثار أنواع الأطعمة والأشربة ويتكاثرون في صنع الإطباق المتعددة بحيث لا يكتفون بنوع واحد أو اثنين من الطعام أو الشراب بل يضعون على موائد الإفطار والسحور كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين أثناء النهار فإذا اندفع مدفع الإفطار انطلقوا نحو الموائد يملؤون بطونهم من كل الأنواع حتى التخمة ثم يتكاسلون وينامون ويقومون على مضض للصلاة المفروضة فإنهم في الواقع قد أضاعوا كثيرا من فوائد الصيام الروحية والصحية والتكاسل والتهافت على ألوان الأطعمة والنوم الثقيل الطويل يضيع فرض الطاعات والأعمال الصالحة ، وأما الإسراف في الإنفاق والإكثار من أنواع الطعام يضر صاحبه ماليا واجتماعيا فإنه بدل أن يعين الفقراء والمساكين والمحتاجين في هذا الشهر الكريم بسبب ارتفاع الأسعار في رمضان في أسواق الخضار واللحوم والفواكه حيث يقوم كل قادر على شراء كمية وفيرة منها وترتفع الاسعار تبعا لزيادة الطلب وتقل الأشياء في السوق وهذا ما نراه في كثير من المدن والعواصم في البلاد الإسلامية وخاصة الغنية منها .
تزكية النفس
لقد بين صلى الله عليه وسلم هذا الهدف النبيل من الصيام فقال :”فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم ، إني صائم والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، للصائم فرحتان يفرحهما : إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه” .
وهكذا يترك الصائم الصفات الذميمة كالغيبة والنميمة والشتيمة والسباب والكذب وفضول الكلام ، كما يمسك عينيه عن النظر إلى المحرمات وأيديه عن فعل المنكرات وأرجله عن السعي إلى المنهيات ، وإلى جانب التسليح بالأخلاق الفاضلة الذاتية يساعده الصيام على التزود بالأخلاق الفاضلة الاجتماعية لأنه كلما يترك الطعام والشراب وبالرغم م وجوده بين يديه فيشعر بوطأة الجوع ومرارة العطش ويحس بنفسه بما يحسه الجائعون في مجتمعه وفي بلده وفي أنحاء الدنيا ، من الفقراء والمساكين والمحتاجين ممن لا يجدون ما يأكلون وما يلبسون فتتقوى في قلبه العاطفة الإنسانية الكريمة والأخوة والمودة بين جنسه الذين يعانون من المجاعة والفاقة في أنحاء الدنيا فيكون رحيم القلب ورؤوف الذهن وسخي اليد وجواد كريم كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم :”كان أجود الناس وكان وأجود ما يكون في رمضان” .
رمضان مصنع الرجال
وإذا تتبعنا بعض الحكم الكامنة في تشريع الصيام شهرا كاملا في مدار السنة واختيار شهر رمضان موسما معينا لهذه الفريضة ، وكذلك إذا تعمقنا في الأحكام والقواعد المقررة شرعا لأداء هذا الركن القويم لصرح الإسلام وأدركنا جيدا سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام والسلف الصالح ، نرى أن الصيام قد فرض في شهر رمضان ليكون بمثابة مصنع للرجال حيث يحقق لهم الهدفين الروحي والمادي ، حتى يكونوا متكاملين من الناحية الجسدية والروحية في معترك الحياة وما دام المؤمن يخرج من المحطة الرمضانية بقوة الأمانة العظيمة الشريفة إلا وهي أمانة العبد مع ربه بالمحافظة على ما ائتمنه عليه من طاعات وعبادات والابتعاد عن كل ما نهاه من محرمات ومحظورات كما أنه يخرج منها بنعمة المغفرة التي وعد الله بها عباده المتقين ، فلا ينبغي للمؤمن العاقل أن يحول هذا المصنع الإيماني إلى مطبخ لألوان الطعام وأصناف الحلويات والمشهيات فيتحول ذلك المصنع إلى صنع المتكاسلين والمتقاعدين ففي ذلك مخالفة صريحة لأهداف الصيام المنشودة والصيام يهدف إلى إيجاد مؤمن قوي كامل الشخصية لا ناقصا ولا مفرطا ولا كسولا ولا أكولا ولا نعوما ، وبهدف الإسلام أولا قبل كل شيئ إلى الاعتدال والتوازن في كل شيء بحيث لا تغلب العبادة على نصيبه من الدنيا فقال تعالى : “وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا: ، ولمصلحة الإنسان فرض الله سبحانه وتعالى عليه صيام شهر في رمضان في مدار السنة .
وقد أجمل الفوائد والمصالح والمنافع المترتبة عليه في قوله الحكيم والمعجز : “وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون” (البقرة : 18) .
إن في هذه الآية عبرة لأولي الألباب وموعظة بينة لأولي العلم والفهم والأبصار .
ولا ينبغي للمسلمين أن يتخذوا هذا الشهر هزوا ولهوا وعبثا ، وعليهم أن يتخذوا من أسلافهم العظماء قدوة لبناء كيانهم الضائع كغثاء السيل ! .