الخليج اليوم – قضايا إسلامية الاثنين 4-أغسطس-1986 م
إن بناء قواعد الأسرة أو بيت العائلة ، كما يكون أحيانا هو المرحلة الأولى لتكوين أسرة متماسكة الأجزاء والأوصال ومتعاونة الأفراد ومتعاطفة القلوب ، حيث تنتشر في أركانها الطمأنينة وتفوح من زواياها رائحة المودة والألفة ، وكل من يدخل إلى عتبتها يشعر بالسكينة والفرحة والطمأنينة والسعادة ، وهذا هو البيت السعيد الذي يتمناه كل عاقل سوى الفطرة وقوى الإرادة ، وبالتالي يبحث عن الوسائل الكفيلة السهلة لتحقيق هذا الهدف النبيل ، وفي بادئ ذي بدء ينبغي لنا جميعا ، معاشر الآمالين والراغبين في تحقيق كيان عائلي نظيف وبنيان أسري عفيف ، وتكوين جو مليئ بالهدوء والأمن والسكون في آفاق بيتنا وعائلتنا ومجتمعنا الصغير ، أن نلتفت بالقلوب لا بالعواطف فقط وبالعقول الواعية لا بالحواس الخاطفة فحسب إلى إرشاد وهداية وتنبيه خالقنا الباري من أجل وضع قاعدة متينة خالدة في بناء الأسرة السليمة ذان المناعة الكافية لمواجهة تحديات جراثيم الأهواء النفسية المهلكة والنزعات الشيطانية المدمرة الإغراءات المالية المفخخة فقال تعالى في قمة الإعجاز والإحكام والإفهام لأولي الألباب : “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ” (الروم : 21) .
الدستور الخالد لبناء الأسرة المثالية
إن الآية القرآنية المذكورة تعتبر دستورا خالدا إلهيا وفطريا وأصيلا لبناء الأسرة السليمة القوية ، وأما القواعد الرئيسية التي وضعها وعينها هذا الدستور لصرح الأسرة فهي أربعة كاملة كما هي لازمة لجميع البيوت الموطدة الأركان وقوية البنيان فالأولى : الالتحام التام النفسي بين الزوج والزوجة لأنهما المنبع المشترك والمصدر المتلاصق ومحط آمال وأماني أفراد الأسرة كلهم عاجل وآجل فجعل الدستور الإلهي الزوجة في موقع النفس للزوج بحيث لا تكون الزوجة جزء خارجا عن كيانه بل هي متلاصقة ومتلاحمة بكيانه الكلي فلا ينبغي أن تنشأ بينهما فكرة المعايرة والمنازعة والمنفسة بل هناك تلاحم تام في جميع شؤون الأسرة التي تتكون منهما ، وجاءت العبارة القرآنية الدالة على هذه الدعامة في إعجاز تعجز أمامه العقول البشرية لاكتشاف ما وراءها من حكمة وقدرة إلهية لربط أوصال الأسرة المؤمنة المسلمة إذ قالت : “لكم من أنفسكم أزواجا” فكيف يتسرب التفكك والنزاع والتطاحن بين هذين العضوين من نفس واحدة ! ؟
والقاعدة الثانية : السكون الذي هو الهدف الأسمى والغاية القصوى من الزوجين وجعلهما في الحقيقة والواقع في موقع نفس واحدة فقال تعالى مبينا الهدف والغاية من هذا اللحام والانسجام الفطري والنفسي والسلوكي : “لتسكنوا إليها” أي ليسكن كل من الزوجين إلى صاحبه في تعاون وتلاطف وتعاطف كأنهما بل أنهما فعلا فرعان متدليان من شجرة واحدة وجزءان لا يتجزءان من أصل واحد ، فينبغي أن يسود التوادد بينهما لا التطاحن ، والتراحم لا التنازع والتفاهم لا التراشق بكلمات وعبارات تبحث عمن يكسب ومن يخسر ، ولكن يجب أن يتراجع كما منهما للآخر بنزاهة وفطانة وضمانة لانعكاسات آراء صاحبه لكي يتم التعامل بينهما للمصلحة العليا لا من أجل المصلحة الشخصية المؤقتة وذلك انطلاقا من مبدء التكامل والتلاحم والتراحم نفسا وروحا ، وكلما تتدعم هذه القاعدة أي قاعدة السكون والسكينة في جو العائلة وفي محيط الأسرة تعم أجواء الهناء والهدوء والطمأنينة بين أفراد الأسرة كلهم فلا تضييع في الأوقات ولا فوضى في المجادلات ولا تراشق بألفاظ نابية ولا مداهنات ومجاملات فارغة بل معاملات مخلصة ومداولات مجدية مفيدة .
والقاعدة الثالثة : المودة فإذا استقرت القاعدات الأوليين في بناء الأسرة أي التجاوب النفسي بين الزوج والزوجة وبعبارة أوضح بين الأب والأم ، وانطلق من ذلك التجاوب ضمان الهدوء والسكون والإخلاص والإيمان إلى أركان بيت الأسرة كلها وإلى نفوس أفرادها جميعا ، يكون الجو ملائما والأساس جاهزا لتوطيد القاعدة التالية وهي المودة القلبية المتينة المنبثقة من انعكاسات النفوس الصافية والحالات النفسية النقية ابتداء من الأبوين إلى الأخوة والأخوات وسائر ذوي الأرحام ، وإذا سادت المودة المتبادلة بين أفراد الأسرة كلهم يسود في أرجاء البيت روح التعاون والتضامن والتسامح فلا غل ولا حقد ولا جشع ولا طمع ولا حب التغاضي أو التناسي عن حقوق وحصص الآخرين مهما كانت الظروف والحالات .
والقاعدة الرابعة : هي الرحمة التي هي قمة السلوك وأوج الاندماج العاطفي وتنطلق من هذه القاعدة التي تدعمها بقية القواعد المذكورة الضمانة الأولى ، في رقابة الضمير وشفاعة القلب وعقيدة الإخلاص ،ضد أي نوع من الشروخ والجروح في جسم هذا الكيان الموطدة الأركان ، وهذه القواعد الأربع تحمي الأسرة من مخاطر التفكك والانهيار وتضمن لها الأمان والاستقرار ؟.