في رحاب رمضان المبارك
الصيام يحرر الإنسان من عبودية الحياة الرتيبة
الخليج اليوم – قضايا إسلامية الأحد 18-مايو-1986 م
إن أسوأ أنواع العبودية إنما هو أن يعيش الإنسان مقيدا بعبادات روتينية في حياته اليومية بحيث لا يستطيع الاقتلاع منها فكأنما هو عبد مقيد لنوع من الحياة الرتيبة ، فلا تكون الإرادة النفسية ذات حرية كما تكون العزيمة عاجزة أمام استخدام حريته الذاتية وعلى سبيل المثال فإن الصيام في رمضان يحرره من عبودية الطعام والشراب في أوقات معددة كل يوم وفي كل الظروف والبينات وأن التحكم في هذه الحياة اليومية الرتيبة وتدريب نفسه على تناقض الوجبات حسب إرادته يقوي في نفسه الشعور بالحرية الذاتية ويزيد إيمانا بأنه حر في تصرفه وليس بعبد لعاداته الروتينية ، وأن حرية الإرادة تعمل فيه دورا هاما في التغلب على العاطفة والشهوة ، وهوى النفس ومن اتصف بهذه الصفات فيكون جديرا بالانتصار في معركة الحياة كلها كما أنه يستطيع أن يحقق العبودية التامة لله الواحد القهار بدون خوف ولا وجل وإليه يشير قوله تعالى :”ألا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم” (يونس : 63) .
اتباع الهوى من أحط أنواع العبودية
لقد أشار القرآن إلى حقيقة معلومة لدى أصحاب الفطرة السليمة إذ قال : “أفرأيت من اتخذ إلهه هواه” (الجاثية : 23) ، وحين ينطلق الإنسان وراء تحقيق ما تهواه نفسه ويزعم أنه حر من سلطانها فما هو إلا تناقض واسترسال في تناول وسائل التمويه والتضليل في حياته .
وأن الحرية الحقيقية هي أن يتحرر الإنسان من الحدود والقيود أمام إرادته الحرة وتحقيق أهدافه المنشودة ، وإذا كان عبدا لأهواء الجسم وأطماعها فإنه في الواقع أسير الرغبات والنزوات فهو إذن عبد لأهون الأشياء في الحياة فإذا لم يستطع التحكم على نفسه فكيف يمكن له التحكم أو التغلب على الآخرين والأسباب الخارجية ؟
وأن استعباده الحق خير من استعباده الباطل كما أن استعباده نزعة إنسانية كريمة خير من استعباده نزعة شيطانية أو نفسانية فالذين يخضعون لأمر الله تعالى ولدواعي الحق والخير المطلق أفضل وأكمل وأعمق ممن يخضعون لإنسان مثله أو لرغبته نفسية تخطئ وتصيب ، وأما المتدينون الذين يتقيدون بإرادة الله تعالى وأوامر رسوله الكريم في الواقع أحرار من عبودية أنفسهم وأهوائها ومطامعها وملذاتها وشهواتها .
وهذا النوع من التقيد يمنحه الحرية الحقة فبها يستطيع السيطرة على أهوائه ونوازعه فلا يكون مستعبد بالعادة ولا مستذلا بنوع خاص من الحياة الرتيبة ، وقد عبر القرآن عن مثل هذه العبودية :” أفرأيت من اتخذ إلهه هواه” فكل هوى يتمكن من النفس حتى تكون له السيطرة على أعماله وسلوكه فهو ينقلب بصاحبه إلى عبودية ذليلة وخطيرة ، ولهذا عبر عن هذا النوع من عبودية الذات بمثل هذا التعبير البلاغي الاستهزائي حيث وضع مثل هذه العبودية مكان الإله الذي يعبده ويخشى مخالفته فلا يستطيع صاحبها مخالفتها وتحويل اتجاهه عنها فكان بمثابة أهون أنواع العبودية وأذلها فكيف ينطلق الإنسان وراء عادة معينة لا يستطيع الاقتلاع عنها ، أو وراء شهوة أو رغبة لا يستطيع الابتعاد عنها ، ومن أدهى وأضر هذه العادات عادة تناول المخدرات أو المسكرات التي تستعبد عقله وفكره وإرادته وتسلب كرامته وعزته ثم يدعى ويزعم أنه حر وصاحب الرأي والإرادة ، وهل هناك عبودية أبشع من عبودية هذه العادات السيئة ثم يدعى أنه من الأحرار والأبرار لأمته ووطنه ؟
الصيام يحمي الإنسان من حياة الفوضى
وليس الحرية الحقيقية كما يطلق البعض أو يتوهم أن ينطلق الأنسان وراء أهوائه وشهواته كما يشاء فيأكل كما يشاء ويفعل ما يشاء وكيفما يشاء فإنما هو في الواقع فوضى وانحلال وميوعة أو الانطلاق الحيواني أو الشيطاني وليس هو النظام الإنساني وأن حرية الفرد لا تتحقق إلا حين تتقيد ببعض المبادئ والشرائع والأنظمة والقوانين وحين يتحرر من هذه القيود ينساق إلى الفوضى والهمجية وينحدر إلى دائرة الحيوانية ، وهل يمكن أن قيود الإنسان سيارته بدون قيد ولا نظام كما يشاء في أي زمان ومكان بدعوى الحرية الشخصية ويمكن الأكل والشرب كما يشاء وكيفما يشاء في أي وقت وفي شكل بدون نظام ولا آداب أو أسلوب بزعم الحرية الذاتية ؟ فتكون النتيجة أن يكون أسير المرض وسجين القانون ومهين الكرامة والسمعة عند الله والناس ، وأن الحرية إنما هي الحياة تبعا لنظام الفطرة السليمة ومتقيدا بأحكامها وأما الخروج عنها واتباع هواه فإنما هو عبودية وفوضى فليس بحرية ونظام فالصيام يحرر الصائم الملتزم بنظامه من عبودية فوضى عبودية الملذات المهلكة والميول النفسية المستنكرة ، وأن الإنسان بجوعه وعطشه وحرمانه من بعض الملذات ينجو من فوضى الشهوات البطنية والتخمة البدنية وبالتالي من أضرار الهبوط الصحي نفسيا وروحيا فيكون حرا في السيطرة على نفسه ، وحرا في امتلاك ملكاته وقدراته ، وحرا في التغلب على أعدائه في الداخل والخارج فيكون سيدا في نفسه وحرا في أخلاقه عاداته ونبيلا بين قومه وزملائه فما أحلى هذه الحرية النفسية ؟ ومن هنا كان الصيام تحرير النفس الإنسانية من عبودية الزوتين وعادات الرتابة في الأكل والشرب بحيث تقيد حرية التغيير وحرية الحركة وحرية الاختبار وأخيرا حرية الإرادة حتى يكون أسير هذه الحياة الرتيبة مسلوب الإرادة ومطية الفوضى ورهين العبودية الجسدية كأن أصحابها خشب مسندة .
وأن الصيام يجعل الصائم المثالي منظما في حياته ومنسقا في عاداته ومتحررا من نزواته ، وقويا في شخصيته أمينا ي حكمته ومقيدا بنظام وقانون ووئام وسلام في مرافق حياته .