الخليج اليوم – قضايا إسلامية – الاثنين 10-فبراير-1986 م
دعا الإسلام إلى العدل وأمر التمسك به حفظا لكيان المجتمع من تسرب الوهن والصعف إلى داخله من جراء سوء الفهم وسوء الظن . ومن الآيات التي تحدثت عن العدل ونهت عن مقابله وهو الظلم ، كثيرة وعديدة . وكلما يحذر المجتمع كم سريان شوائب الظلم والجور إلى صفوف الأفراد ويتوعد مرتكبي الظلم والانحراف عن العدل في المعاملات من الناس في جميع مرافق الحياة البشرية بعواقب وخيمة ، ومنها قوله تعالى : “وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لا عدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم أن يجمع بيننا وإليه المصير” . (الشورى : 15) . وقال أيضا : “اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله ” (المائدة : 8) .
مفهوم العدل في الإسلام
يستعمل لفظ العدل في اللغة العربية بمعنى إقامة الشيئ وتسويته ، ويقال : عدل الشيئ – أقامه وسواه ، وعدل في حكمة أو في أمر – أنصف واستقام ، ويستخدم لفظ العدل عموما بمعنى : الإنصاف ، وقال تعالى : “إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما” (النساء :106) .
وأما صورة العدل التي فرضها الإسلام على الناس فما عرفت الدنيا لها مثيلا في مختلف أطوارها ، ولا تعرف تلك الصورة أي تفريق أو تمييز بين الصديق والعدو والقريب والبعيد والغني والفقير والصغير والكبير وأنها صورة العدل المطلق في كل حين وزمان ومكان وظروف حتى في المعمعة الطاحنة بين الفريقين وبين الحق والباطل ، وإلى هذه الصورة الرائعة للعدل الإسلامي النبيل يشير القرآن الكريم إذ قال : “يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شعداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ، والتقوا الله إن الله خبير بما تعملون” (المائدة : 8) .
وهناك حادثة رائعة وفريدة في تاريخ الإنسانية حيث تتجلى فيها عظمة نظرة الإسلام الإنسانية العادلة إلى الأمور على أساس الفطرة السليمة القويمة التي فطر الله الناس عليها بحكمة وعدل ورحمة منه وتلخص قصة هذه الحادثة كالآتي : في الفترة التي كانت يهود يثرب (المدينة المنورة) يتآمرون ويخططون لتضليل الناس عن الإسلام ونبيه ويطلقون ألسنتهم بالسوء والفتنة ضد الإسلام والمسلمين بقصد تمزيق المجتمع الإسلامي الجديد في المدينة ، وكانوا يحاولون كل المحاولة لإثارة كل خصم للمسلمين ضدهم لإضعاف شوكة المسلمين وتفكيك عراهم من الداخل لتمهيد الطريق أمام الأعداء لمهاجمتهم من الخارج .
وفي هذه الفترة الحرجة بالذات تعرض يهودي للاتهام بسرقة من جماعة من الأنصار في يثرب وكان الأنصار في ذلك الوقت يشكلون القوة الدفاعية الأولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته وأتباعه ، فنزت الآيات الكريمة المذكورة لتنصف ذلك اليهودي المتهم ، فقال الله تعالى : “إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما” . وما أروع مستوى هذا الإنصاف والعدل ؟ ! وهذه هي صورة العدل الإلهي المعروضة من فوق سبع سماوات للناس جميعا . وما أوسع لفظ “الناس” الوارد في الآية ؟ وذلك لتعليم البشرية جمعاء ان العدل في مفهوم الإسلام مداره الإنسانية المطلقة بدون أي اعتبار خارجي من التقرب والتشفع والتوصية والمودة لن العدل حينما يتسرب إلى ميزان تطبيقه أي شيئ من الاعتبارات المذكورة يخرج عن أهدافه المنشودة ويتعرض المجتمع لهزات ونكسات من الداخل ويتعرض بالتالي لهجمات ولطمات من الخارج حينما يعرف الأعداء المتربصون أماكن الضعف في أوصال جسم المجتمع بسبب تفشى الأحقاد والضغائن من جراء الجور والظلم والتسيب من مناعة العدالة والإنصاف .
لا محاباة في عدالة الإسلام :
إن العدالة التي يهدف الإسلام إلى تطبيقها في الناس لا تعرف المحاباة والزيغ والمجاملة ولكنها عدالة صارمة منصفة مستقيمة ، ومن الآيات الدالة على هذا المعنى السامي للعدالة الإسلامية : “وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى” (الأنعام : 152) . وأيضا : “إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل” (النساء : 58) . وكذلك يصف القرآن الآمرين بالعدل والداعين إليه بأروع وصف وأرفعه في ميزان الاستقامة والشهامة فقال : “هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ” (النحل : 76) ، ويتبين فضل العدل وجلاله وجماله في سلوك الإنسان وقوام المجتمع ، من الآية الكريمة التي نسمعها في كل خطبة أيام الجمع من أعالي المنابر ، ومن خلال المكبرات ، وهي قوله تعالى : “إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، يعطكم لعلكم تذكرون” (النحل : 90) . وما أرفع شأن العدل وأهميته ؟ ويأمره به رب الناس في البداية ثم يردفه بالوعظ له ويختمه بدعوة البشرية كلها إلى التذكر في دوره في خلق مجتمع صالح متماسك الأوصال .