الخليج اليوم – قضايا إسلامية – الثلاثاء 4-مارس-1986 م
من المعلوم في المنطق السليم والمعروف في واقع الحياة في كل زمان ومكان ، وأن القوة هي مدار التقدم والنهضة للأفراد والجماعات والأمم والشعوب ، وهذه القوة كلمة جامعة وشاملة حيث تشمل القوة المعنوية والقوة المادية وكل منها له فروع وأجزاء وجوانب محسوسة وأخرى ملحوظة بالمشاعر والأحاسيس الذهبية والعقلية ، وأن جميع هذه القوى وجوانبها المختلفة لا يتحقق وجودها إلا بالعلم والمعرفة بالمعنى الأعم والأشمل ، ولا تفاضل بين أنواع وفروع العلوم والمعارف مادامت قائمة بدورها الأصلية المطلوبة في حياة الإنسان الدنيوية والأخروية ومتطلباتها المادية والروحية لأن الإنسان مادة وروح ، حياته دنيوية وأخروية ، ولكن الدنيا مزرعة الآخرة ، ومن هنا وإلى هنا نعرف قيمة العلم في حياة الأفراد والمجتمع ومكانته في الإسلام .
مكانة العالم أعلى من مكانه العابد !
لقد عرف قيمة العلم في كيان الكائن الإنساني في الوجود ومدى دوره الأساسي فيبناء كيانه وإثبات ذاته وتقريره مصيرة في الحياتين اللتين لإفكاك له منهما فإذا كانت الأولى دار عمل والأخرى دار جزاء وإذا كانت مكانة العالم أعلى وأرفع من مكانه العابد ، وقد بين وأكد هذه النظرية الإسلامية رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة في مناسبات شتى منها : حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال : “وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء وأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر” .(رواه الترمذي وأبو داود) .
وجاء في حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : “فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم” . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في حجرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير ” . (رواه الترمذي) . وجاء في حديث رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : “ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة” .
وإذا ألقينا نظرة عابرة على الآيات القرآنية الواردة العديدة منفضل العلم والعلماء كفانا هذه الآيات الثلاث القصيرة المحكمة في غاية الإيجاز والإعجاز (1) : “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون” (الزمر : 9) ، (2) “يرفع الله الذيم آموا منكم والذين أوتوا العلم درجات” (المجادلة ) ، (3) “إنما يخشى الله من عباده العلماء” (فاطر : 28) .
مصطلح علوم الدين وعلوم الدنيا دخيل في تاريخ الإسلام
إذا درسنا تعاليم التراث والسنن النبوية وسيره أعلام المسلمين وأئمتهم ، وفهمنا تاريخهم في حياتهم العلمية تعلما وتعليما وإنتاجا وتأليفا لا نجد على الإطلاق في هذه المصطلح الغريب في دنيا العلوم والمعارف إنما هو دخيل في الإسلام والمسلمين بفعل فاعل ماكر أو بجهل جاهل حائر ، وأنه مفروض على السنة علماء العصر الحديث وفي مؤلفاته ومجالسهم حتى تسرب هذا امصطلح الغريب المريب إلى أذهان علماء المسلمين اليوم انتشرت هذه الفتنة والخرقاء إلى دور العلم والمجامع والجوامع في كل بلد عربي وإسلامي فأتت المدارس والجامعات والمعاهد المخصصة للعلوم الدينية والأخرى للدنيوية إلى حيز الوجود ، وصار لكل منهما شعارات ورايات وعلامات ومميزات ونزلت الطاقة الكبرى عندما بدأ التمييز والتفريق بين علماء الدين وعلماء الدنيا وبعبارة أدق : بين علماء العلوم الشرعية وبين علماء العلوم العصرية .
الجهل بمفهوم العلم والعلماء في الإسلام أدى إلى تخلف العرب والمسلمين
العلم هو المبدأ الأول في تحديد مكان الإنسان في هذا الكون إذ قال يقول الله سبحانه وتعالى : “وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ، قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ” .
وبالعلم أيضا كان بدء النبوة الخالدة الشاملة للإنسانية كلها لجميع مرافق حياتها حيث كان مبدأ الوحي : “اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم” .
وقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم فقال : ” وقل رب زدني علما ” (طه : 114) .
وفي ضوء الإرشادات الربانية التي رأيناها في بعض الآيات القرآنية المذكورة رغب النبي صلى الله عليه وسلم أمته في طلب العلم وأكد عليه بوضوح وجلاء ومنه قوله عليه السلام : “طلب العلم فريضة على كل مسلم ” . وقوله : “اطلبوا العلم ولو بالصين” (وقد رأينا أحاديثه في فضل العالم على العابد) .
وأوجب الواجبات وألزم المهمات لكل إنسان عربي ومسلم أن ينظر بعين التحقيق والإمعان ، وبعقل واع وقلب مفتوح وسمع مرهف إلى صيغة التعميم والتنكير الواردة في آيات القرآن وأحاديث الرسول لكلمة “علم” ، وذلك للإرشاد إلى أهمية جميع أنواع العلوم والمعرفة لنهضة الإنسان الشاملة في الحياتين ولتعليم البشرية بأن العلم بذاته ، سواء كان مما يتصل بالأمور المعنوية او المادية أو الروحية لازم لتقدمها والجهل بفرع منه يسبب الضلال والنكسة في بناء المجتمع .