الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 5-فبراير-1987 م
(دراسة وتحقيق)
منذ أن أتم استيلاء الغرب على أكثر أقطار العالم الإسلامي عسكريا واقتصاديا بدأت محاولات الغزو الفكري والتحدي العقدي بقصد الانتقام من الإسلام وحضارته ، لأن أوربا لا تستطيع أن تنسى الحروب الصليبية ولا أن تخرج من ذاكرتها أن الإسلام بقوة مبادئه ونزاهة حضارته ورفعه التعاليمه القويمة الفطرية ظل يسود عقر دارها ، ويهز كيانها بضعة قرن ، بل وكان الإسلام برسل النور والعرفان إلى أنحائها ، وأوضح دليل على عمق التعصب والتعنت تجاه الإسلام لدى قادة أوربا الكلمة المشهورة التي قالها اللورد “النبي” عندما دخلت جيوش بيت المقدس : “الآن انتهت الحروب الصليبية” .
وأصبح التحامل على الإسلام وأهله غريزة موروثة تقوم على المؤثرات التي خلفتها الحروب الصليبية بكل ما لها من خلفيات وأهداف .
ومن هنا بدأت الدراسات الغربية عن الإسلام وتاريخه تنمو وتتكاثر بقصد تبرير سياسة الاستعمار الغربي نحو الشعوب العربية والإسلامية ، وبهدف إثبات تفوق العقلية الغربية ودقة تفكيرها لكي ينتشر بين الأجيال الحاضرة والقادمة اعتقاد راسخ أن الحضارة الغربية تفوق جميع الحضارات في التاريخ وأن التفكير الغربي منطقي وسليم ، وأما الشعوب الأخرى ، وخاصة العربية والإسلامية ، فعقليتها بسيطة وساذجة ولا تدرك الأمور إدراكا كليا ، وقد أدركوا بطول باعهم في ممارستهم الاستعمارية والمخططات الكيدية تجاه الشعوب الإسلامية واحتكاكهم مع حكامها وقادتها وعامتها أن المواجهة الصريحة للمسلمين في عقيدتهم لن تحقق الهدف المنشود سوى استفزاز مشاعرهم وإيقاظهم إلى الكيد المرصود لهم فيزيدهم تمسكا بهذه العقيدة ودفاعا عنها ، ولذلك لجأوا إلى خطة دس السم في العسل ، فيبدأون بتمجيد الإسلام ورسوله والإشادة بحضارة المسلمين وبحوثهم العلمية فإذا اطمأن القارئ المسلم إلى أنه في جو علمي منصف لا يضمر للإسلام وأهله أي سوء في النية ، وتخلي عن الانتباه واليقظة ففي هذه المرحلة يدس له السم وهو غافل ، وتحقن في غمرة هذا التمجيد الشبهات الغامضة والتشويهات الخفية التي توصل في النهاية إلى التشكيك في حقائق العقيدة الإسلامية ومبادئها الأصيلة .
تلبيس العقيدة الإسلامية
وقبل أن يستفيق أحد الدارسين عن غفوته ، وينتبه إلى عنصر الكتاب الغرب والمستشرقين المسيحيين ، يقوده الكاتب إلى جو الثقة الصادقة ، وإلى فكرة النزاهة العلمية الكاملة ، حتى إذا قيل له : فكيف تنتظر من مستشرق غير مسلم أن يكون مخلصا في كل ما يكتبه عن الإسلام وحضارته ؟ وكيف تتخذ كتاباته مصدر المعرفة في عقيدة الإسلام ومسائله ، ومرجعا أصليا في الدراسات الإسلامية ، فيقول بكل ثقة وصدق نية : إنه يقدم لنا بحوثا علمية منهجية مستقلة ، بعيدة عن العواطف الدينية والتعصب العقدي ويردف هذا القارئ قوله :”إنا نأخذ عن هؤلاء المستشرقين وغيرهم من علماء الغرب نتائج بحوثهم المستأنية الصابرة المنقبة في بطون أمهات الكتب الإسلامية ، وأن هؤلاء المستشرقين قد أدوا خدمات جليلة للمباحث الإسلامية بطريقة منظمة” ، وهكذا وصلت خطة كيدهم المنظم للإسلام وتاريخه وعلومه ورجاله إلى حد ان بعض المثقفين من المسلمين يثقون في كتاباتهم كل الثقة ولا يشكون في حيادهم وإنصافهم فيجعلونها مراجع لهم لا في الحوادث التاريخية والتحقيقات العلمية ، بل في البحث عن تصور الوحي والنبوة والعقيدة الإسلامية ، وأصول الدين ، وعن حياة رجال الإسلام البارزين الذين هم موضع القدوة ، وكل هذا وذاك دون فطنة إلى أن الهدف الخفي هو تلبيس العقيدة الإسلامية وتشويه التصور الإسلامي الصحيح ، والتشكيك في شخصيات ودوافع رجال الإسلام الكرام الذين ضحوا بنفسهم ونفيسهم في سبيل خدمة هذا الدين وإعلاء كلمة الله على وجه الأرض مخلصين له الدين .
تشويه التصور الإسلامي
وهذه الثقة العمياء المصحوبة بالانبهار القوي هي الغاية القصوى التي يهدف إليها أعداء الإسلام الذين يعملون ليل نهار للقضاء على العقيدة الإسلامية وسلخ الناس منها وتفتيت العالم العربي والإسلامي ، إن هذا الانبهار بأفكار المستشرقين وعدم الثقة بأنفسنا إزاء بحوثهم وتحقيقاتهم العلمية ليس بنا شيء من فراغ ولا بقائهم على اتجاه فكري لكنه وليد جهود جبارة ودراسات مضنية وخطط منظمة وضعت موضع التنفيذ بدقة وجذر ومهارة وفيما يلي لمحات من أسباب ذلك الانبهار والشعور بمركب النفص :
بد أ اتصال العالم العربي والإسلامي بالحضارة الغربية في أوائل القرن العشرين ودبت نهضة ثقاية عامة في البلاد العربية والإسلامية ، فوجد المثقفين بثقافات عالية عصرية من الجيل الجديد من المسلمين ، الكتب العلمية والثقافية والأدبية عند المستشرقين خاصة وعلماء الغرب عامة منظمة تنظيما حديثا ، بينما وجدوا التراث العربي والإسلامي مبعثرا في كتب قديمة غير منظمة على عكس غرار تنظيم الكتب العلمية عند الغربيين والمستشرقين ، وبينما رأوا تقاعس علماء المسلمين عن التحقيقات العلمية الجادة شاهدوا بعض المستشرقين بفنون أعمارهم في دراسة التراث العربي و الإسلامي وتتبع مصادره في خزائن الكتب شرقا وغربا ، حتى ليظل بعضهم عشرات السنين في تحقيق كتاب من التراث الإسلامي وتأليف كتاب عن ناحية من نواحي الثقافة الإسلامية معتمدين عل مصادر قديمة من كتب أوائل علماء العرب والمسلمين .
ولما رأت هذه الطبقة من المثقفين المسلمين ذلك الدأب المتواصل عند المستشرقين والتفرغ الكامل لتنظيم التراث العربي والإسلامي ونشره في مختلف اللغات انبهرت أبصار أولئك المثقفين بجهود هؤلاء المستشرقين واستولى أسلوبهم الحديث على ألبابهم فاندفعوا إلى اتباع طريقتهم في البحث والتحقيق وأعجبوا بعلمهم واطلاعهم الواسع على تراث المسلمين ، واعتقدوا أن مثل هؤلاء العلماء الباحثين لا يهدفون إلا إظهار الحقائق وفق منهج علمي دقيق ، وهكذا نشأت الثقة العمياء ببحوث هؤلاء المستشرقين وآراءهم وأفكارهم ، وبالتالي انصرفوا عن الرجوع إلى المصادر الإسلامية ، ولا شك في أن الجهود الضخمة التي بذلها المستشرقون في إحياء التراث العربي والإسلامي وفي تحقيق النصوص القديمة ونشرها صفات نادرة ، يجب أن يتصف بها العلماء الباحثون ، وفيها عبرة وقدوة للعلماء العرب والمسلمين الذين هم حماة هذا التراث الأصلية التي استقى منها المستشرقون أنفسهم ومن الأسباب التي دعتهم إلى هذا الاندفاع :
أولا : صعوبة الرجوع إلى تلك المصادر .
ثانيا : الرغبة في سرعة الإنتاج العلمي بدون التفرغ الكامل .
ثالثا : حب الظهور بإتيان بحث جديد بأسلوب جديد ونشر أفكار حديثة غير سائدة في الأوساط العلمية والدينية في الزمن القديم ، حتى انتشر في أذهان هؤلاء المثقفين الاتكال على المستشقين في معرفة حقائق عقائد المسلمين وتشريعاتهم مذاهبهم الفقهية ! .
وأصحاب هذه النصوص وعليهم بذل الجهود لحفظ هذه الكنوز ونشرها بشتى الوسائل الممكنة ولكن الاعتبار ليس فقط ببذل الجهد ونشر التراث ، وإنما الاعتبار الحقيقي بالهدف الذي يبذل من أجله ذلك الجهد وكذلك النتيجة الحتمية التي يوصل إليها في النهاية .
وحينما يضع العرب والمسلمون عن أنفسهم أفلال الوصاية الفكرية ويتحررون من عقدة التخلف الفكري والعلمي ومن عقدة مركب النقض تجاه كل ما يأتي من الغرب ويتركون نظرة التقدير والتعظيم إلى نهج الغرب في كل شيئ ، وعادة تلقيه بدون فحص وتمحيص ، يعرفون حق المعرفة أن الهدف الديني كان وراء نشأة الاستشراق ودعم الدراسات العربية والإسلامية في أوربا وأن إقامة مؤسسات ضخمة تصرف عليها ثروات باهظة لدراسة التراث الإسلامي لم يكن أمرا عاديا ولا من قبيل الصدفة ، وباختصار شديد أن جهود المستشرقين بصفة عامة تسير دائما في اتجاهات ثلاثة متكاملة ومتررتبة وهي :
1 – إظهار نقائص مزعومة في الإسلام وحجب حقائقه عن الناس لمنعهم عن الاطلاع على حقيقة الدين الإسلامي وخطر اعتناقه .
2 – محاولة لإبراز أن الإسلام دين مأخوذ من اليهودية ولنصرانية وبالتالي الانتقاص من قيمته والحط من قدر نبيه وكتابه القرآن الكريم .
3 – العمل لتحقيق هذه الأهداف من وراء ستار علمي وتراثي بوقي .