الخليج اليوم – قضايا إسلامية -1987 م
إن الحياة الدنيا بواسع مفهومها وواقع مجراها مجموعة من الأمور المتشابكة بعضها بعضا والمتداخلة فيما بينها بصورة لا يقدر جزء منها أو ركن من أركانها أن يتكيف أو يتكون بالاستقلال التام أو الاستغناء الكامل عن الأوصال الأخرى لتلك المجموعة المترابطة والمتماسكة فيما بينها ، ومن هذا المنطلق الفطري ينبغي أن يفهم الإنسان الواعي الهادف إلى بناء كيانه وتطوير شخصيته وبالتالي تحقيق نجاحه في معترك هذه الحياة جميع الظروف المحيطة بمجريات حياته وملابسات ارتباطه مع الكائنات المتصلة به في بيئته ويعرف جيدا كيفية المعاملة مع كل منها حسب ظروف وخصائص ودوائر ذلك الكائن لأن طبيعة وميزة واهمية ، كل منها تختلف عن الأخرى فإذا لم يكن على بينة تامة منها سيحصل الارتباك أوالاختلاط أو التصادم المؤدي إلى الانهيار .
وإذا أقدم الإنسان على أي مشروع أو برنامج لتحقيق أو هدف من أهداف الحياة ، الاجتماعية أو الفكرية أو الاقتصادية أو السياسية بدون الإدراك الوافي لمتطلبات نتفيذ ذلك المشروع أو مقدمات ومستلزمات ذلك البرنامج فلا يتأتى له تحقيق الهدف المنشود .
ومن هنا أوجب مقتضى العقل السليم أن يفكر الإنسان ويدبر بقدر ما أوتي من قوة الفهم مدارك العلم في العواقب المترتبة على وضع ذلك المشروع موضع التنفيذ وكذلك يعي ويفهم الوسائل اللازمة لإنجاح كل مرحلة من مراحل المشروع الذي أمام آماله وطموحاته ، وعلى سبيل المثال فإن نجاحه في مجال التجارة لا يتأتى إلا بفهم دقيق وإدراك صحيح لأنظمة التجارة الناجحة وشروطها ومتطلباتها والصفات اللازمة للقائم بها فإذا اختل فهمه في ناحية من نواحي هذه المتطلبات أو تلك الصفات فلا ينجح في تجارته وتكون عرضة للكساد وتصبح الخسارة عاقبته .
وكذلك الدخول في معترك الحياة السياسية أو مجال الإصلاح الاجتماعي أو الدعوة إلى نظرية خاصة أو إلى تأسيس هيئة أو منظمة علمية أو إصلاحية والإقدام على أي منها بدون فهم سليم ووعي كامل وإدراك صحيح لكل متطلبات البناء ومقدمات التنفيذ ومستلزمات استمراريته وأخيرا وليس آخرا لجميع وسائل تطوير مراحله والاحتياطات الكافية لمواجهة التحديات أو العراقيل المفاجأة غير متوقعة فيكون المصير الفشل الضريع .
ومقدمة ذلك الفهم المطلوب السليم ، العلم بكليات وجزئيات وملابسات العمل الذي يريد القيام به أو المشروع الذي يرجو البدء فيه او المهمة أو الوظيفة التي يرغب في أن يتولى مهام أعمالها ، وأما التطرف أو التهور أو التعجل في الخوض في أية ناحية أو مرحلة أو خطة في مجالات الحياة الدنيا قبل الفهم السليم لجميع العواقب المحتملة والفهم الدقيق لكل المستجدات الممكنة حاضرا او مستقبلا فيؤدي حتما في أغلب الأحوال وأن النادر لا يقاس عليه ، إلى الفشل الذريع في معترك الحياة المتشابكة الأغراض والأسباب ، وأن الفهم السليم يشعر صاحبه بضرورة اتخاذ الاستعدادات اللازمة ، والحذر التام عند الأقدام على أية خطوة إلى الأمام في مضمار الحياة ، وإلى هذه الضرورة الأولية والمهمة التصدي والشريطة الأساسية للنجاح في معترك الحياة يشير القرآن الحكيم ليكو نبراسا للإنسان في كل الظروف والبيئات والزمان والمكان فيقول :”يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم” (النساء : 7) . ثم يقول :”ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة” (التوبة : 46) . ويقول أيضا مشيرا إلى ضرورة اتخاذ كل الخطوات اللازمة والوسائل الطبيعة في مواجهة التحديات العصرية في كل الوجهات ومن كل الجهات : “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة” (الأنفال : 60) ، وقد ربط الله سبحانه وتعالى الأسباب الظاهرية والفطرية للنجاح الهائل الذي تحقق لسليمان عليه السلام في هذه الحياة الدنيا بالفهم الدقيق السليم ثم رتب عليه ما منحه من الحكم والعلم والملك المنقطع النظير فيقول : “ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين وعلمنا صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون” (الأنبياء : 80) . “وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون” (العنكبوت : 43) . صدق الله الحكيم الخبير.