الخليج اليوم – قضايا إسلامية الأربعاء 20-أبريل -1987 م
إن وظيفة القرآن في البشر هي رسم أقرب الطرق إلى الهداية الربانية وحفظ البشرية من مواطن الهلاك وإخراجها من غياهب الجهل والغفلة إلى أنوار العلم واليقظة نحو الصراط المستقيم المؤدي إلى سعادتي الدارين ، فما كان ليأتي بما ينافي العقول السليمة أو يحمل الجسم ما لا طاقة له أو يفرض على الإنسان ما ليس من فطرته وطبيعته ويقول القرآن بكل وضوح وجلاء : “فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكقر الناس لا يعلمون” (الروم : 30) ويقول أيضا : “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها” (البقرة : 286) .
ومن تتبع الأحكام الشرعية الإسلامية في مختلف أبوابها من عقائد ومعاملات وعقوبات ، واستقراء الحكم التشريعية التي شرعت لأجلها تلك الأحكام ، تجزم بأن الغاية منها تحقيق مصالح الإنسانية وإقرار العدل والإنصاف بين البشر وتأسيس السلام والنظام والاستقرار في العدل ، وأن مصلحة أي فرد أو مجتمع تتكون من عناصر ثلاثة :
أولا – أمور ضرورية لا تقوم حياة الفرد أو المجتمع إلا بها .
ثانيا – أمور حاجية لا تتيسر الحياة وتخلو من العسر والحرج إلا بها .
ثالثا – أمور كمالية لا تكمل الحياة وتتم إلا بها .
وقد كفلت الشريعة الإسلامية كل واحد من هذه العناصر الثلاثة بنوعين من الأحكام : (1) أحكام توجيه وتحققه و(2) أحكام تصونه وتحفظه، وبهذا النظام الإلهي الفطري كفلت مصالح الإنسانية كلها .
وأشار القرآن الكريم إلى أن الهدف من مبادئه وتعاليمه وإرشاداته هو اليسر بالناس وتمام النعمة عليهم وإقرار الأمن والنظام في المجتمع الإنساني كله فيقول : “ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم” (المائدة : 6) .
لقد بنى المجتمع الإسلامي الأول كيانه على قواعد متينه من القيم والمبادئ المنبثقة من النظام القرآني الفطري الذي وضعه خالق البشر والعالم بطبائعه وسرائره والمدرك بحاجاتهم ورغباتهم وأهم تلك القواعد .
الأول : الإيمان بوجود خالق الكون وبقدرته وبتصرفاته في شؤون الكون كلها ، والثاني التسامي بالنفس الإنسانية ، والثالث : تقرير عقيدة الدار الأخوة والثواب والعقاب ، والرابع : إعلان الأخوة بين الناس كلهم ، والخامس : النهوض بالرجل والمرأة معا والتكافل والمساواة بين جناحي الأمة في الحقوق والواجبات كل في دائرة تخصصه ، والسادس : تأمين المجتمع بتقرير حق الحياة والملكية والعمل الصحة والعلم والأمن لكل فرد وتحديد موارد الكسب ووسائله المشروعة ، والسابع : ضبط وتنظيم الغرائز النفسية من حفظ النفس وحفظ المال وحفظ الأعراض وغيرها ، والثامن : محاربة الجرائم بجميع أنواعها ، والتاسع : تأكيد وحدة الأمة والقضاء على كل مظاهر الفرقة وأسبابها ، والعاشر : التضامن الوثيق بين الحاكم والمحكوم والدولة والشعب .
وكانت الوحدة بكل معانيها ومظاهرها تشمل ذلك المجتمع المثالي ، فالوحدة الفكرية شاملة بتعاليم القرآن ، والوحدة الاجتماعية شاملة في ظل الأخلاق والمعاملات والتصرفات المنبثقة من القيم الإسلامية والفطرية ، والوحدة اللغوية كانت قوية تحت مظلة لغة القرآن والأحاديث النبوية والوحدة السياسية كاملة في ظل الخلفاء الراشدين والأمراء المؤمنين حتى كان الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول :”لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في كتاب الله ، وهكذا كان إيمانهم بنظام الإسلام ، وعزمهم في تطبيق مبادئه ، ومدى رغبتهم في نشرها بين الناس ، فكان الجميع يعملون بعقيدة واحدة وبتوجيه واحد ، ولهدف واحد .
وطارد ذلك المجتمع المثالي ، بفضل هذه المبادئ القرآنية الوثنية المخرفة في جزيرة العرب وبلاد فارس ، فقضت عليها ، وطاردت اليهودية الماكرة فحوتها في نطاق ضيق ، وصارع المسيحية المنحرفة حتى انحسر ظلها في قارتي آسيا وأفريقيا وانحازت إلى أوروبا في ظل الدولة الرومانية وقد اكتمل واستقر السلطان الروحي والسياسي للدولة الإسلامية في القارتين العظيمتين آسيا وأفريقيا وقامت بمد فتوحاتها إلى القارة الأوروبية ففتحت القسطنطينية من الشرق وفتحت الأندلس من الغرب ووصلت جنودها المظفرة إلى قلب فرنسا وإلى شمال وجنوب إيطاليا ، وأقامت في غرب أوروبا دولة شامخة البنيان ومشرقة بالعلم والعرفان ، وتمخرت أساطيل العرب المسلمين عباب البحرين الأبيض والأحمر فصار كل منهما بحيرة إسلامية وقبضت قوات الدولة الإسلامية بذلك ، على مفاتيح البحار في الشرق والغرب وهكذا تمت السيادة البرية والبحرية للأمة العربية الإسلامية ، وكل هذا وذاك في غضون فترة قصيرة من الزمن لم يسبق له مثيل في تاريخ الأمم والدول والحضارات منذ بدء الخليقة !!
وهذه حقائق واقعية سجلها التاريخ بمداد من النور ، واعترف بها كل باحث منصف وعالم مدرك وتشهد بها صفحات الكتب الموضوعة في شتى اللغات والمطبوعات في مختلف الجهات ولا يصعب الأطماع عليها على الرغم من كل المحاولات لإخفائها أو الانتقاص من قيمتها .