الخليج اليوم – قضايا إسلامية -1987 م
حينما أشرت في مقال سابق ، إلى دور المساجد كوسيلة هامة لتوثيق الروابط الأخوية بين المسلمين وتذويب الفوارق الطبقية من حياة المجتمع الإسلامي ، وذكرت فيه بعض المخاطر المترتبة على إثارة الخلافات المذهبية والمنازعات الفقهية بين العلماء والمذاهب المختلفى حول طائفة من المسائل المتعلقة بنوافل العبادات وكيفيات أدائها في ضوء الأدلة الشرعية ، ليكون ذلك التذكير بمثابة تنبيه إلى بعض الخطباء والوعاظ الذين يتخذون منابر المساجد العامة مكانا لنشر البلبلة الفكرية والشبهات الدينية بين عامة الناس عندما يستمعون إلى هذه المنازعات حول هيئات وكيفيات بعض العبادات مع أن هؤلاء يحضرون إلى بيوت الله خاشعين لعبادته ومستمعين إلى ما يفيدهم من شؤون دينهم ، وفضلا عن أنهم لم يبلغوا إلى مستوى هضم المسائل الفقهية العويصة ولم يصلوا إلى درجة التمييز بين الموضوعات الاجتهادية في الأمور الدينية وبين الموضوعات المعلومة بالضرورة منها فإن من الأفضل بل من الضروري عدم إثارة هذه المسائل أمام هؤلاء الجماهير وقصر نقاشها في مجالس العلماء وأوساط الفقهاء ، تفاديا لحدوث الارتباك في نفوس العامة ونشوب الاختلافات في صفوف الأمة ، وعندما أشرت إلى هذه النقاط الحساسة باختصار ، تطاول بعض الفطاحل بأن المساجد مراكز تجمع المسلمون فينبغي انتهاز فرص خطب الجمعة وحلقات الدروس الدينية لإنارة المسلمين بدقائق المسائل الفقهية وإشباع رغباتهم الدينية في جميع المسائل الفروعية والأصولية فلا يجوز إبعاد ساحات المساجد عن إثارة المسائل الخلافية بين المذاهب الإسلامية .
فقصارى كلامي المشار إليه في المقال المذكور إنما هو أن المساجد بيوت الله على وجه الأرض للعبادة والتلاوة وتحصيل العلوم النافعة وتدبير شؤون الأمة الإسلامية تحت راية الإيمان بالله الواحد القهار وفي ظل لواء الأخوة والمساواة في صفوف أفرادها جميعا ، وأكبر دليل على هذا الهدف النبيل لغاية المساجد ما كان من الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم من الحرص الشديد على اتخاذ مسجده الذي كان أول عمل قام به في عاصمة الإسلام الأولى ، مقرا ومركزا ومنبعا لتثبيت دعائم التآخي بين جميع طبقات وطوائف وقبائل المسلمين ، من الأوس والخزرج والأنصار والمهاجرين ، ومن هذا المركز الأصيل قد انتشر نور الإخاء والوفاق والوئام بين الأمة الإسملاية وما كان أبدا قط مصدرا لأي نوع من بوادر الخلاف ومظاهر الشقاق في صفوفهم ، بل وكان كل شائبة من ملامح الاختلافات الشكلية أو الفكرية أو الموضوعية يتلاشى في داخله ، فكيف يستسيغ للمؤمنين المخلصين المصلحين أن يجلبوا بوادر الخلاف إلى ساحات بيوت الله ويتخذوها منصة أو خشبة لإثارة الفتن الطائفية أو المذهبية التقليدية وأن رسالة المساجد نشر التعاون والتسامح والتعاطف بين المسلمين وليذكر هؤلاء المفرقون بين صفوف المؤمنين في ساحات السماجد المثيرون للشقاق بينهم في بيوت الله عز وجل ، قوله تعالى جيدا وبوعي كامل إذ يقول بكل صراحة وإشارة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد :
“والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين” (التوبة : 107) .