الخليج اليوم – قضايا انسانية -8/9/1985
قد علمنا مما سبق أن الصيحة الأولى من صوت القرآن قد وضعت الحجر الأساسي لبناء التكوين العلمي والحضاري والفكري للأمة الإسلامية ، ومن الطبيعي أن يؤدي مثل هذه التعاليم إلى تشجيع حرية البحث ، وتقوية الرغبة في طلب العلم والإقبال على فروع المعرفة التي تتناسب مع مطالب الأمة الرائدة للإنسانية ، ومع مطالب الدولة الإسلامية القائدة للبشرية .
وبعد مرور مرحلة التكوين والتجربة واللاختبار ، وأصبحت الدولة الإسلامية ، وبخاصة في عهد العباسيين ،مستودع الذخائر العلمية في العالم ، وكان وكلاء الخلفاء ينقبون في كل بلد من بلاد العالم ، عن كنوز الثروة الحضارية القديمة ثم يجلبونها إلى عاصمتهم ويغرضونها على الناس وينشرونها بينهم فأصبح المسلمون يحملون للواء الحضارة في كل مكان ، ويؤسسون المكتبات والمعاهد العلمية في كل مدينة ، ويدعون كل قاصد للدخول إليها ، ويدرسون آراء كبار الفلاسفة القدامى .
ولأول مرة في التاريخ ، يشهد العالم دولة تؤازر وتحتضن جميع أنواع العلوم والآداب والفنون ، وتعمل على انتصارها ، حتى صارت كل مدينة في الدولة الإسلامية تنافس أختها في بناء حضارة إنسانية راقية تجمع بين خيري الروح والمادة اللتين يتكون منهما الكيان الإنساني الحق . وكان الحكام بأنفسهم يعقدون المجالس العللمية والمناظرات الفلسفية .
وأن الأمة الإسلامية هي أمة ذات هدف معين في الحياة ورسالة كاملة في العالم ، فحضارتها وثقافتها وكفاحها وإنتاجها ، وكل ما يتصل بها من حركة ونشاط خاضع لمبادئه وغاياته ورسالتها . وهي صاحبة الرسالة الإنسانية الجامعة التي أتي بها خاتم الأنبياء والرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم مختتما ومكملا لحلقات الرسالات الإلهية للبشرية ، وهذه الرسالة هي التي يجب أن تسيطر على جميع مواقف الأمة الإسلامية وتصرفاتها . وأن مركزها ينبغي أن يكون مركز التوجيه والإرشاد والقيادة الثقافية والحضارية والفكرية . ويعلق القرآن بكل قوة وصراحة هذه النظرية وتلك الغاية : “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ” . ويقول أيضا : “وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا” .
وحينما يأمر الإسلام أمته بالكفاح في سبيل الحياة والعلم والطبيعة ن للغايات الكريمة ولصالح البشرية وخدمة الإنسانية يطلب منها أن تستخدم كل قواها وجهودها ومواهبها وجميع وسائلها وذخائرها ، لتكوين المجتمع الصالح وإعلاء كلمة الله وإخراج الناس من الظلمات إلى النور . ويمدح القرآن من يسعى للجميع بين خيري الدنيا والآخرة ، فيقول :: ” ومنهم من يقول ربنا آتنا غي الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، وأولئك لهم نصيبهم مما كسبوا والله سريع الحساب” .
وخير ما يمثل موقف الأمة الإسلامية من هذه الحياة ، هي الجميلة الحكيمة المأثورة عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في إحدى خطبه الجامعة : “إن الدنيا خلقت لكم وإنكم خلقتم للآخرة ” . فالمسلم يجمع بين الانتفاع بمرافق الحياة وأسباب الدنيا واستخدامها كشيئ خلق له وسخر له ، وبين السعي للآخرة والكفاح لها ، كغاية خلق لأجلها . وهنا تتعارض النظرية الحضارية المادية البحتة التي تبني على أساس أن هذه الحياة الدنيا هي كل شيئ ، وهي المنتهى مع المبالغة في تمجيدها والحرص على تزيينها والتهافت عليها .
وكانت الحضارة التي يعنيها الإسلام ، والتي تجلت آثارها وتولحدت أركانها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفي حياة الصحابة ومن كان على نهجهم ، وأصبحت من الحقائق التاريخية حضارة بنيت بذكاء وقوة إرادة وعبقرية ، وليست مجرد عملية نقل وتطبيق وتعديل وتحسين ، وكذلك كانت تلك الحضارة مسايرة مع المقتضيات العصرية ، وحقائقها غير مختلقة وغير متخيلة ومع الاحتفاظ بالشخصية الإسلامية وفي حدود العقيدة والأخلاق الفاضلة .
ومن الميزات المبدئية والفكرية والإنسانية التي تمتاز بها الحضارة التي قدمتها الأمة الإسلامية للعالم ، عن الحضارات الأخرى قديمها وحديثها ، أن المبدأ الأول للحضارة الإسلامية تعميم العلوم والمعارف ، وإزالة التفرقة الطبقية والعنصرية بين البشر . وقامت هذه الحضارة على النزعة الإنسانية الخالصة التي لا تفرق بين الناس . وقد استمد المسلمون دستور حضارتهم من الإعلان القرآني : ” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير” .
وحين تطلع العربي المسلم بنظره ، ملتزما بدينه ، ودستوره ، إلى ما وراء أفق الصحراء العربية ، بل حين توطدت أقدامه في بقاع لم يكن يحلم بارتيادها أيقن أنه ليس فاتحا ولا غازيا ، وإنما هو داع ومبشر لعهد جديد .