الخليج اليوم – قضايا إسلامية – السبت 15-مارس-1986 م
ربما يخيل إلى بعض القراء الكرام أن الكتابة في هذا الموضوع من الأمور العادية المعروفة أو من الموضوعات التي لا تمت بصلة إلى قضايا العصر الملحة أو المسائل اللازم تناولها في مثل هذا العصر الزاخر بمشاكل عويصة ومخاطر عديدة تحيط بالعالم العربي والإسلامي ، ولكن لطرق الحياة العنصرية دخلا كبيرا في تراكم الأزمات وتفاقم الملمات في العالم الإنساني المعاصر ، وأن العنصر الإنساني واحد في كل زمان ومكان ، وأن النواميس الفطرية التي فطر الناس عليها لا تبديل فيها ، وقد كانت المسألة الصحيحة للإنسان في كل العصور ، مسألة تدور حولها دعائم المضادات ومقوماتها ، وكما أن الصحة البدنية للإنسان مرتبطة ارتباطا وثيقا بصحته النفسية وقدرته الإنتاجية في كل المجالات ويتضح هذا السر الخطير من الحكمة المأثورة الجامعة قولا ومعنى إلا وهي “العقل السليم في الجسم السليم” .
وإذا كان العقل سليما يكون كل ما يصدر منه من أفكار وقرارات سليمة وصحيحة وإذا كان العقل سقيما فيمكن أن تصدر منه أفكار سقيمة وقرارات سقيمة تؤدي صاحبه هو وغيره إلى الشر والهلاك .
أثر الصحة البدنية في الصحة النفسية
ويتضح من بعض الحقائق التي علمناها أن صحة البدن هي المدار الأساسي لصحة النفس التي هي المعيار الحقيقي لحفظ توازن أحكام وقرارات وأفكار صاحبها وخاصة إذا كانت مرتبطة بمصير جماعة أو أمة أو دولة فما بال هذا المعيار إذا كان متعلقا بشخصيات عالمية ترتبط بهم سياسات الدول الكبرى ، وقد ازداد الطين بله في هذا العصر الذي اكتسب من المدنية الحديثة عادات جديدة وتقاليد مستحدثة تتزايد فيها المشاكل الصحية للإنسان جسميا ونفسيا بسبب هموم الحياة المعقدة والشائكة وكثرة العادات السيئة التي صاحبت هذه المدنية ، وبدأت الأزمات القلبية أخذة في الزيادة وأسباب القلق والتوتر والأرق واضحة في الحياة العصرية .
دور الطعام في حفظ الصحة
إن الطعام من أكبر نعم الله سبحانه وتعالى لخلقه وبه قوام الحياة ونمو الأجسام وطاقة الأبدان للقيام بواجبات الإنسان في جميع مجالات الحياة وإنما هو خاضع لنواميس الفطرة وقوانين الطبيعة كسائر الأمور الطبيعية اللازمة لحياة الإنسان وتقدمه وسعادته وفوزه في الدارين .
ويشير القرآن الكريم إلى هذه النعمة الإلهية ويحث الإنسان على الاستمتاع بها والشكر عليها وكذلك بين أصول وشروط الاستفادة من هذه النعمة لئلا تتحول إلى نقمة عند سوء استخدامها فقال الله تعالى :”كلوا من رزق ربكم واشكروا له” (سبأ : 15) وأيضا قال : “يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم” (البقرة : 172) .
ثم ينتقل القرآن الكريم إلى بيان الحدود والمبادئ التي يجب الالتزام بها عند استخدام هذه النعمة العظمى في حياة الإنسان لئلا يطغى فيها فيضل ويشقى فيقول القرآن : “وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ” (الأعراف : 31) . ثم يقول : “كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه” (النحل : 81) .
علاج القرآن لأزمات القلب والشريان
قبل أن نخرج على بيان الملامح الإعجازية لهاتين الآيتين من الكتاب الحكيم ، يجب علينا أن نقف برهة لإلقاء نظرة عابرة إلى الواقعة أمام أعيننا ليلا ونهارا في كل مكان نتيجة الانحراف عن هذه القاعدة الإلهية الفطرية إلا وهي : آداب الأكل والشرب أو قواعد الطعام والشراب ، وتلخص هذه الآداب أو القواعد في جملة جامعةحكيمة : “ولا تسرفوا” أو “ولا تطغوا” ، والطعام والشراب من صنع الإنسان واختياره وكلما زادت رفاهيته زاد تنوع طعامه وشرابه وكلما زاد التنوع زاد الشوق إلى نهمه والإكثار منه والإسراف فيه ، وإذا نظرنا إلى ما ابتلى به عالمنا اليوم من الأزمات القلبية بأنواعها والمتاعب النفسية بأشكالها من تصلب الشرايين وضيق التنفس وزيادة الوزن المضر على القلب كثرة الدهون والنشويات والكوليسترول الزائدة عن الحاجة المؤدي إلى أمراض القلب والشرايين ، نرى أن الإسراف في الأكل والشرب هو السبب الحقيقي لهذه الأزمات كلها .
ونقطة الإعجاز في هذه الآية قوله “ولا تسرفوا” بصيغة العموم والإطلاق أي عدم الإسراف في الكمية والكيفية وغيرهما من كل الجوانب المتعلقة بعملية الأكل والشرب فإن الإكثار من كمية الطعام والشراب يحدث ارتباكا في الهضم ويكون عبثا على المعدة وبالتالي يتسبب بأمراض عديدة وأما الإسراف في كيفية الطعام والشراب أي في نوعيتها فيحدث كذلك أشد الضر وأكبر الخطر فإن أنواع الطعام المليئة بالدسم والدهن والغنية بالكوليسترول تؤدي إلى السمنة في الأجسام وأعباء جديدة على القلب والشرايين .
الإسراف بلاء عظيم
إن مرد كل الأمراض والأزمات القلبية والنفسية والصحية هو الإسراف في كمية الطعام والشراب أو نوعيته ، وقد ثبتت ذلك علميا وإحصائيا وواقعيا ونبه القرآن الكريم وحذر عنه قبل 15 قرنا وقد بينه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أكثر فأكثر إذ قال : “ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه ، ثم قال : ” نحن قوم لا نأكل حتى نجوع ، وإن أكلنا لا نشبع وهل نحن اليوم من هذا القوم لكي نجني الثمار الموعودة لهم ؟ وهل ندرك ونسترشد آدابنا وعاداتنا من أسلافنا الأصحاء الأقوياء أو نستوردها من أصحاب الأمراض النفسية والأزمات القلبية ؟ ورب عادات جديدة مستوردة قد يحسب في ظاهرنا نعمة ورفاهية ولكن في باطنها نقمة وبلية .