الخليج اليوم – قضايا انسانية
تحتفل الأمة العربية والإسلامية بل والإنسانية جمعاء في هذه الأيام ، بذكرى الهجرة النبوية السادسة ببعد الألف والأربعمائة ، أي في مستهل القرن الخامس عشر الهجري الذي هو في الواقع نقطة انطلاق جديد للعالم العربي والإسلامي نحو صحوة جديدة ونهضة شاملة على الرغم من كل ما يواجهه من عقبات كأداء ومخططات شتى.
لماذا التاريخ الهجري؟
إن لكل أمة م الأمم ولكل دولة من الدول ، حدثا هاما وعظيما تتخذه نقطة تحول في تاريخها ، وتعتبره بداية جديدة لحضارتها وشخصيتها وكيانها المتميز على وجه الأرض وفي سجل التاريخ ، ثم تتخذها مناسبة سعيدة تحتفل بها كل عام لاستذكار دروس ذلك الحدث العظيم ، ولاتخاذ عظات وعبرة منه لتكون نبراسا لمستقبلها القريب والبعيد .
ومن هذا المنطلق فكر عظماء المسلمين في صدر الإسلام بطبيعة الحال ، في اختيار حدث مناسب لجعله بداية وعنوانا لتاريخهم مدى الأيام والعصور ، وكان في مقدمتهم الفاروق الأعظم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فرأى بثاقب فكره وقوة بصيرته أن أهم حدث غير مجرى تاريخ الأمة الإسلامية بل وتاريخ الإنسانية جمعاء هو “هجرة” الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى “يثرب” (والمدينة المنورة)..
الفرق بين هجر وهاجر؟ .
إن فعل “هجر” بوزن فعل في اللغة العربية يفيد معنى “ترك” أو تخلى عنه فإذا قيل : هجر شخص بيته أو مكانه فتكون الجملة تامة ومفيدة . وأما فعل “هاجر” بوزن فاعل فيفيد معنى التفاعل والتعاون بين الطرفين وليس مجرد الترك أو التخلي من طرف واحد فإذا قيل : هاجر فلان بيته أو بلدة فلا تكون الجملة تامة ولا مفيدة بل ينبغي أن يقال : هاجر فلان من مكان إلى آخر أو هاجر من بلد آخر ، أي بمعنى الانتقال من مكانه إلى مكان آخر بحيث يحصل التفاعل بينهما ويكون مركز ذلك التفاعل الشخصي المهاجر.
وأن اللفظ الذي يطلق على حادثة مغادرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه من مكة إلى يثرب هو “هاجر” أي هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى يثرب ولم يقل ولا يقول أحد من اللغويين أو المؤرخين الثقاة : “هجر” النبي صلى الله عليه وسلم مكة … لأنه لم يغادر مكة هربا من المتاعب أو طلبا للراحة أو المغانم ، ولم يقصد من الذهاب إلى يثرب “الفرار” من شدة الأهوال التي كان يلاقيها هو وصحبة في سبيل نشر دعوته وإبلاغ رسالته ولكن كانت تلك المغادرة باختيار وتخطيط لتغيير موقع العملية الحركية إلى مكان آخر جديد ، ولاتخاذ مقر مناسب في ظروف أوسع وبوسائل أخرى عديدة لم تستخدم بعد ، في الفترة المكية .
دخول الدعوة في طور جديد ..
كانت الدعوة الإسلامية في الفترة المكية تدور حول ترسيخ عقيدة التوحيد في أذهان الناس فلما جاء وقت انتقالها إلى طور آخر وهو طور تأسيس الشريعة الشاملة الكاملة تتناول جميع مجالات الحياة البشرية اقتضت إرادة الله أن ينتقل مركز هذه الدعوة إلى موقع أصلح وأنسب بمقتضيات الطبيعة والبيئة والظروف والمجتمع فانتقل إلى تلك البقعة من الأرض .
وكان من المتوقع بل ومن المتأكد أن هذه الهجرة وذلك الاستبدال سوف يثير مشاكل أوكثرر ومتاعب أشد في سبيل الدعوة وتوسيع نطاقها لأن العداوة إذا كانت منصبة من جانب المشركين فقط بمكة فصارت العداوة متعددة الأطراف في المدينة من اليهود والمنافقين وحكام القبائل والملوك في البلاد المجاورة لأنهم كانوا ينظرون إلى هذه الدعوة بعين الريبة والخوف لأنها ربما تكون وبالا على مراكزها وخطرا على مستقبلهم وتحديا لأهوائهم ومطامعهم .
الموقع الحركي الفعلي ..
وقد أحس أهل المدينة من طبيعة هذه الدعوة ومن رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم على استجابة دعوتهم له للتوجه إلى ديارهم بمسؤوليتهم الجسيمة والمشاكل العديدة تواجهها تلك الدعوة في المرحلة الجديدة فعاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الدفاع عنه وعن صحبه في سبيل الدعوة ونشرها والذود عنها بكل إخلاص وصدق نية . وأن هذا التعهد لأصدق دليل على أن الهجرة ما كانت فرارا من المتاعب وهروبا من المشاكل تخفيفا عن النفس والمال والأهل أو تنازلا عن أدنى شيئ من عناصر الدعوة ومبادئها وتعاليمها بل كانت حقا وواقعا ، الانتقال بالدعوة من مرحلة المبادئ إلى مرحلة البرامج ومن الموقع الدفاعي إلى الموقع الحركي الفعال .
وجير بالذكر في هذا الصدد أن المشركين بمكة قد ائتمروا لقتل النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن علموا بقراره للهجرة إلى يثرب بمعنى أن قرار الهجرة لم يكن بسبب ائتمارهم بقتله ولكن ذلك الائتمار قد جاء بعد قرار الهجرة لمنعه منها لأنهم كانوا يعرفون أنه سينتقل بدعوته إلى استراتيجية أقوى وأوسع .
وقد حان الأوان لكل من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أن يدرس دوافع الهجرة النبوية وملابساتها من هذا المنطلق ويدرك أخطار المفهومات المغلولة العاقلة بهذا الحدث العظيم ، فليتخذ المسلمون من الهجرة النبوية الكريمة عبرا وعظات لتعود بفوائد عظيمة جمة لمستقبل عملهم الحضاري والفكري ولبناء شخصيتهم المتميزة ولمواجهة التحديات المعاصرة والمقبلة ، لأن في التاريخ لعبرا وذكرى لأولي الألباب.