صوت الشرق – فبراير 1965 م
ترجع أصول العلاقات الثقافية بين الأمتين الكبيرتين الهندية والعربية إلى عهود بالغة في القدم ، وقد تطورت تلك العلاقات وتبلورت حسب تقلبات الزمن حتى صارت اليوم موثقة العرى موطدة الأركان ، وبعد أن شارك العرب والهنود في النضال السياسي والكفاح الوطني على أساس التعاون والتعاطف اتسع نطاق تلك العلاقات حتى كان زعماء الهند والعرب ، سواء منهم السياسيون أو الثقافيون ، يستوحون المثل السامية لخلق فصل جديد في تاريخ العلاقات العربية الهندية .
وبفضل هذا التجاوب الذهني تمكن الشعبان في أيامنا هذه من أن يستهلا عصرا جديدا من التبادل الثقافي والتفاهم الفكري ، بقول العلامة الشهرستاني :
“إن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد ، فأكثر ميلهم إلى تقدير خواص الأشياء والحكم بمقتضى الحقائق والماهيات ، واستعمال الأمور الروحية ” .
وأما من الناحية المادية ، فكانت منتجات الهند ومحاصيلها موضع اهتمام العرب ، وقاموا بنشاط تجاري بحرى واسع مع الهند وعملوا أيضا على ازدهار العلاقات التجارية بين البلدين ، كما ظهر ذلك جليا من كثرة ورود أسماء الأشياء الصادرة الشعراء القدامى وفي نشر كتابهم “كالفلفل” و “القرنفل” و”السيف المهند” ، ما إلى ذلك .
العرب واسم “الهند”
إن الاسم الأصلي للبلاد الهندية هو “بهارت” كما هو الاسم الرسمي المنصوص عليه في الدستور الهندي ، وأما تسمية هذه البلاد بلفظ “الهند” كما هي مستعملة فترجع هذه التسمية إلى العرب أنهم كانوا يلقبون كل شيء محبب إليهم بلفظ “الهند” أسوة بأسماء بناتهم ، فلما توثقت العلاقات التجارية والثقافية بين البلدين ، وأصبحت “بهارت” ومحصولاتها و علومها ورجالها محل إعجاب وتقدير لدى العرب بدأوا يطلقون كلمة “الهند” على تلك البلاد بدلا من “بهارت” وسجلوا هذا الاسم في آثارهم وأشعارهم ومعاهداتهم التجارية حتى اشتهرت “بهارت” على مرور الأيام باسم “الهند” .
وفود العرب للهند
كان العرب – التجار منهم والسياح – يفدون إلى سواحل الهند الغربية والجنوبية الواقعة في شاطئ بحر العرب قبل قدوم الاسكندر الأكبر بقرون عديدة ، فكانت منتجاتها المحلية ومحصولاتها الزراعية تصدر إلى جزيرة العرب ، ومن هناك ينقلها التجار إلى الشام ومصر، وأما التجار الغربيون فكانوا يشترون تلك السلع من هذه البلدان ثم يصدرونها إلى بلادهم ، كما أن دخول الإسلام في القارة الهندية بأيدي التجار العرب في بادئ الأمر قد ساعد على توسيع نطاق العلاقات الثقافية والروابط الروحية أيضا بجانب العلاقات التجارية ، التي تأصلت جذورها من قبل ، وبدأت اللغة العربية وآدابها تنتشر في ربوع البلاد على أيدي هؤلاء العرب ، واعتنق بعض الهنود الدين الإسلامي ، وتشبعوا بالدعوة الإسلامية وارتشفوا من الثقافة العربية وأصبح أثر النفوذ العربي ملموسا في البقاع الساحلية للقارة الهندية .
فترة ركود
واستمر ازدهار العلاقات الثقافية والتجارية بين الهند والعالم العربي إلى أن بسط الاستعمار سياسته المعروفة بسياسة “فرق تسد” وفي خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين مرت الهند والعرب بفترة تميزت بالسيطرة الاستعمارية فسعى الجانبان إلى التحرر من نيل الحكم الأجنبي الثقيل ، بالتعاون والصداقة المنبادلين على أساس التفاهم والتعاطف على قضايا الفريقين .
تقارب زعماء البلدين
كان التعاون الذي استمر بين زعماء الهند والعرب ، وفي ميدان الكفاح السياسي وحقل التحرر الفكري قد ترك أثرا بالغا على الفكر والأدب لدى الجانبين ، فبينما كان كثير من الكتاب العرب وأدبائهم ومفكريهم يعالجون في كتاباتهم ورسائلهم وخطبهم القضايا المتعلقة بالهند في مختلف الميادين ، كان التفاهم السياسي تاما بين صفوف زعماء الهند والعرب ففي الوقت الذي توطد فيه التفاهم السياسي بين “غاندي” و”نهرو” و”آزاد” وبين “عرابي” و”سعد زغلول” و”مصطفى كامل” ، توطد التجاوب الفكري بين “طاغور” و “شبلي” و”الدهلوي” وبين شوقي و”حافظ” و”محمد عبده” .
وهكذا أصبح الكتاب العرب وأدباؤهم ومفكريهم معروفين في الهند ، وصار زعماء الهند ورجال العلم والأدب والفكر فيها معروفين في بيئات الشعب العربي .
في عهد الحرية
وباستكمال التحرر السياسي في كلا البلدين بدأ مصر جديد في ميدان العلاقات بينما ويمتاز هذا العصر بتقوية العلاقات الثقافية إلى جانب العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين الأمتين ، ومن مظاهر هذه الجهود التي يبذلها الطرفان في ميدان تطوير هذه العلاقات الازدياد المطرد في ميدان التبادل الثقافي والتعاون العلمي بين الهند والعرب ، ويتدفق طلاب النور والمعرفة في كل عام إلى المراكز العلمية والثقافية في البلدين ، لتلقي العلوم والمعارف من هذه المراكز ، ليكون ذلك زادا وعونا على استعادة الروابط المعنوية القديمة ، التي انفصمت وصالها لأسباب لم تكن في حسبانها .
وأدرك المسئولون مغبة حياة العزلة التي فرضها على الدول الشقيقة الاستعمارالمغرض ، وقرروا العمل المتواصل لكل يزول عن كاهلها هذا الكابوس الذي يعرقل التقدم والنمو في هذه الدول ، وهاهي تعمل الأن لتحقيق الآمال والأهداف المشتركة بطريق التقدم العلمي والتعاون الفني والتبادل الفكري .
ومنذ أن نالت الهند استقلالها في عام 1947 عقدت عزمها على توسيع نطاق التعاون الثقافي مع العالم العربي بصفة خاصة ، نظرا للعلاقات الثقافية والتاريخية التي كانت ولا تزال تربط بين الأمتين العريقتين ، واختارت لنفسها برنامجا متعدد الأهداف في حقل التعاون الثقافي ، مثل المنح الدراسية العامة والزمالة الدراسية ومشروع التبادل الثقافي ، وتنظيم الحلقات الدراسية من كبار العلماء المحليين ومن العلماء الأجانب لكي يسود فيها جو الصداقة المتبادلة والتفاهم الوثيق في شتى المسائل الجوهرية .
معالم التطور الثقافي
ومن المعالم الحية التي تلقي ضوء على مدى تطور العلاقات الثقافية الهندية العربية ، هذه المراكز المنتشرة في أنحاء الهند لنشر اللغة العربية وآدابها ، ومنها معاهد ومدارس عربية تقوم على المساعدات الخيرية والتبرعات الأهلية ، وكذلك الكليات العربية التي تجري تحت إشراف الجامعات التي تشتمل على أقسام خاصة للدراسات العربية ، ومنها أيضا الدور الخاصة للنشر والطبع والتأليف باللغة العربية ، وكذلك التبادل المطرد في البعثات العلمية بين البلدين .
فبينما نرى أعضاء البعثات العلمية الهندية في أكثر جامعات الجمهورية العربية المتحدة ومعاهدها المختلفة قدموا إليها ليتمكنوا من العلوم العربية والدراسات الإسلامية نجد الطلاب العرب الوافدين على مختلف جامعات الهند يتلقون العلوم والمعارف من مناهل الهند التاريخية ، ويتخصصون في لغاتها وفلسفاتها ، وهكذا تسير العلاقات الثقافية بخطى واسعة إلى الأمام .