صوت الشرق يونيو 1965 م
يبدع عدد المسلمين في العالم اليوم حوالي 634،320 مليون نسمة ، وتمثل ثلاث من الدول نحو نصف عدد المسلمين من المجموع الكلي فأولاها تضم ما يقرب من مائة مليون مسلم ، وهي اندونيسيا ، والثانية تضم ما يقرب من تسعين مليونا ، وهي باكستان ، والثالثة هي الهند ، تضم اليوم أكثر من ستين مليونا من المسلمين .
وتعالوا معنا نتعرف على حياة المسلمين ونشاطهم الديني ، والثقافي والعلمي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي في هذا البلد الكبير “الهند” .
إن للإسلام والمسلمين في القارة الهندية صفحات مجيدة في تاريخ خدمة العلم والدين ، ونشر الثقافة العربية والإسلامية في داخل البلاد وخارجها وقد وجد الإسلام منذ انبثاق فجره أرضا خصبة في هذه البقعة التاريخية ، وكان المسلمون منذ مبدأ هذه البقعة التاريخية ، وكان المسلمون منذ مبدأ الأمر يلعبون دورا هاما في خدمة هذه البلاد ، ويساهمون مساهمة فعالة في نهضتها وتقدمها كما كانوا يعيشون جنبا إلى جنب في وئام وسلام أخوة متحابين ومتكاتفين مع مواطنيهم الموالين إلى الديانات الأخرى ، ولم يحدث في هذا الوضع السليم إلا بعد وصول الحكام المستعمرين إلى الهند وانتهاجهم سياسة معادية للمسلمين ، واتباعهم سياسة “فرق تسد” وعملوا على إثارة الفتن والنعرات الطائفية بين الطوائف المختلفة التي كانت تعيش في أمن ووئام منذ القرون الأولى ، ونجحوا إلى حد ما في تأليب بعض المواطنين ضد إخوانهم المواطنين .
دور المسلمين في الكفاح الوطني
قام المسلمون بدور رئيسي في كفاح البلاد التحرري من الحكم الأجنبي ، وأن حرب الاستقلال الهندية الأولى ضد الانجليز قد أعلنت في عام 1857م تحت زعامة “بهادورشاه” آخر أباطرة المغول ، وانضم تحت لوائه المكافحون الهندوس والمسلمون ، ومن الزعماء البارزين الذين ساهموا فيها لصون حرية البلاد واسترداد حقوقها “مولاي أحمد الله شاه” و”خان بهادور خان”، “صاحب زاده فيروزشاه” من المسلمين إلى جانب الزعماء الهندوس البارزين أمثال “نانا صاحب بشوا” و”رانى لكشميباي” أميرة (جانسي) ، وقبل ذلك حارب السلطان “تيبو” في الجنوب و”سراج الدولة” في الشمال ، الدول الأجنبية التي حاولت فرض سلطانها على الهند واستغلال ثرواتها وامتصاص دماء شعوبها .
المسلمون والمؤتمر الوطني الهندي
منذ أن أنشأ حزب المؤتمر الوطني الهندي في سنة 1885م لعب الزعماء الهنود المسلمون دورا في غاية الأهمية داخل المؤتمر لتحقيق أهدافه ، وتنفيذ برامجه وإنجاح مراميه ومساعيه لتحرير البلاد ، وتخليصها من مخالب الاستعمار ، وكان في طليعة المدافعين عن الحركة الاستقلالية التي تزعمها “المهاتما غاندي” و”جواهر لال نهرو” و”مولانا أبو الكلام آزاد” فيما بعد ، “شيخ الهند مولانا محمود الحسن ، ومولانا عبيد الله السندي وأمثالهم” ، ومن الزعماء الوطنيين المسلمين الذين رأسوا المؤتمر الوطني في فترات مختلفة “السيد بدر الدين طيب جي” و”السيد محمد رحمة الله ساياني” و”نواب محمد بهادور” و”السيد حسن إمام” و”الحكيم أجمل خان” و”مولانا أبو الكلام آزاد ” وغيرهم .
دورهم في تشكيل الهند الحديثة
بعد أن نالت الهند استقلالها ، وحققت سيادتها كاملة غير منقوصة ، في عام 1947م أعلنت لنفسها نظاما ديمقراطيا سليما ، كما أنها وضعت دستورا يكفل جميع أنواع الحقوق لكل أفراد الشعب وطبقاته بصرف النظر عن الدين أو العنصر أو اللغة أو الطائفة ، ووضعت الحكومة الهندية نصب عينها مهمة القضاء على الفقر والجهل وتحقيق العدالة الاجتماعية ، والمساواة الإنسانية ومنذ أول يوم لاستقلال البلاد وتقسيم القارة الهندية ، بدأ المسلمون يؤدون نصيبهم في تثبيت دعائم الحرية للبلاد ويتحملون مسئوليات ضخمة في بناء الهند الحديثة ، فكان من بين أعضاء الجمعية التأسيسية التي وضعت الدستور الخالي حوالي خمسة وأربعين عضوا مسلما ، كما كان عدد كبير من المسلمين أعضاء في المجالس التشريعية في المقاطعات المختلفة ، وشغل أمام الهند مولانا أبو الكلام آزاد في أول وزارة ألفت في ظل الاستقلال منصب وزارة المعارف والبحوث العلمية كما أنه تولى فيها منصب وزارة الأغذية الزعيم المسلم رفيع أحمد قوادى وهما الوزارتان الهامتان في دولة أعلنت أن مهمتها الأولى القضاء على الفقر والجهل ، هذا إلى جانب عدد كبير من الشخصيات الإسلامية البارزة تولوا أعلى المناصب العسكرية والدبلوماسية والقضائية والاقتصادية ، وكانوا يساهمون بنصيب كبير في بناء الهند الحديثة .
في ميدان التربية والتعليم
احتل المسلمون مركزا رئيسيا ، منذ الاستقلال في الميدان التعليمي في الهند ، ومن رجال التربية المسلمين البارزين الدكتور ذاكر حسين نائب رئيس جمهورية الهند الحالي ، ومؤسس الجامعة الملكية بدلهي ووكيل جامعة عليكرة الإسلامية السابق وكذلك البرفسور هومايون كبير والسيد غلام السيدين وعدد كبير من رجال التربية والتعليم الذين كانوا يشغلون مناصب عالية تعليمية في عهد المرحول مولانا أبو الكلام آزاد ، وأما وكيل جامعة عليكرة الحالي السيد على ياورجنج ، وشيخ الجامعة الملكية الإسلامية الأستاذ مجيب ، وكذلك وزير المعارف الهندي محمد كريم شجلا فهم مسلمون من أئمة رجال التعليم ، يحتلون مناصب عالية في الاتحاد الهندي .
ويؤلف المسلمون نسبة ملحوظة في السلك السياسي الهندي ، فمنهم الموظفون في وزارة الخارجية وفي الهيئات التابعة للأمم المتحدة ، والمحافل الدولية الأخرى ، ولا يتسع المجال للخوض في التفاصيل ..
فإذا انتقلنا إلى الميدان القضائي ، نجد المسلمين ممثلين فيها بنسبة مرموقة ، فيوجد منهم قضاة في المحكمة العليا المركزية ، والمحاكم العليا في الولايات ، هذا إلى جانب عدد من الموظفين المسلمين في إدارات القانون والنظام والبوليس والأمن العام وفي الميدان الاقتصادي والاجتماعي أيضا يؤلف المسلمون جزء حيا في شتى أنحاء البلاد .
وهكذا تلعب الأقلية المسلمة في الهند دورا هاما في إقامة صرح الهند الجديدة على أسس إنشائية سليمة في ظل ديمقراطيتها وبرلمانيتها وعلمانيتها التي تتيح الفرص لجميع أبنائها لأن يشقوا طريقهم إلى حياة رفاهية ورخاء ومحبة وإخاء ، على رغم النعرة الطائفية او العصبية التي تثيرها حينا فآخر العناصر الشريرة المغرضة ، ولكن السياسة الرشيدة المبنية على دستور علماني وحكم برلماني تقف بالمرصاد دائما لهذه العناصر المنحرفة التي تشكل خطرا على روح الثقافة الهندية الرفيعة ومثلها العليا .
الدعوة الإسلامية
انتشر الإسلام في ربوع الهند بأيدي دعاة مصلحين من العرب والهنود الذين اغترفوا من متابعة الفياضة ، وتشبعوا بتعاليمه السامية ، ودخل صوت الإسلام في حنايا الهند بطرق سلمية وموعظة حسنة لا بفضل الأباطرة والملوك الذين قاموا بفتوحات وغزوات لأغراض سياسية أو مصالح ذاتية ، ولقد لعب الصوفية دورا هاما في نشر الدعوة الإسلامية في الهند ، وكان السر الكامن وراء نجاح دعوة الصوفية في أوساط الطبقات المختلفة في الأمة الهندية هو في ابتعادهم عن مآرب الدنيا وزخرفها ، فتأثر أهل البلاد بأخلاقها الفاضلة من طيب نفس ، وهذا هو السر أيضا في التعايش السلمي الذي تمتاز به الهند ، بين الطوائف المختلفة ، وكان –ولا يزال- هذا التعايش شعار الهند ورائدها في سياستها ونظام حكمها ، وأن للمسلمين –كالأغلبية الهندوسية تماما- الحق الكامل في نشر مبادئ دينهم وثقافتهم والدعوة إليها ، وإقامة معاهد ومدارس خاصة للعلوم الإسلامية ، والدراسات الدينية ، ونشر وتأليف وترجمة مؤلفات ومجلات وصحف تنشر الدعوة الإسلامية وتدعو إليها ، كذلك منح الدستور الهندي ، لجميع المواطنين حق إنشاء المؤسسات ذات الأهداف الدينية وإدارتها وتمليك الأموال الخاصة بها .
وليس هذا كلام مجاملة أو مبالغة ، بل حقيقة واقعة نص عليها دستور الهند في مادته الخاصة بحقوق المواطنين الأساسية ، وتؤكد هذه المادة حرية الكلام والتعبير والاجتماع وتكوين الهيئات وتملك وحق اختيار حرفة أو مهنة ، ومباشرة التعاليم الدينية لكل مواطن حسب رغبته واستعمال لغته ، وتأدية شعائر دينه ، وممارسة ثقافته الخاصة ، ولا يقدح في القانون سوء استعمال الناس له أو خرقه عمدا أو بدون قصد .
مراكز الثقافة الإسلامية
إننا نستطيع أن نقسم المراكز الثقافية الخاصة بالمعلمين إلى ثلاثة أقسام :
أولا : المعاهد العربية الإسلامية المنتشرة في مختلف أنحاء الهند والتي تستعين بتبرعات أهلية من أفراد المسلمين وجماعتهم إلى جانب المساعدة الخالية التي تتلقاها من الجامعات أو الهيئات الحكومية .
ثانيا : الجامعات الحكومية التي بها أقسام خاصة للدراسات الإسلامية واللغة العربية .
ثالثا : الهيئات الإسلامية التي تهتم بالشؤون الدينية والثقافية لمسلمي الهند وتعمل لنشر العلوم الأخرى ، وكذلك بواسطة إيفاد الدعاة والمرشدين والوعاظ إلى مختلف أنحاء البلاد .
ومن القسم الأول : المعاهد الإسلامية الكبرى مثل دار العلوم بديوبند وندوة العلماء بلكنو ومظاهر العلوم ومدرسة الإصلاح وغيرها في شمال الهند والباقيات الصالحات ودار السلام والكلية الجمالية بمدراس وروضة العلوم ومدينة العلوم وسلم السلام والجامعة النورية ومدرسة نور الهدى وغيرها في كيرالا بالجنوب ، هذا إلى جانب الحلقات مختلف أنحاء الهند حسب النظم القديمة .
ومن القسم الثاني : جامعة عليكرة والجامعة العثمانية بحيدر آباد وجامعة علماء الهند وندوة أهل الحديث وندوة المجاهدين وما إلى ذلك من الهيئات التي تعمل لنشر العلوم الإسلامية والآداب العربية إلى جانب مساهمتها في النشاط الثقافي والعلمي في البلاد بوجه عام .
وهناك في الهند مكتباب شهيرة ، تضم مجموعة كبيرة من لكتب العربية الإسلامية ، خطية ومطبوعة مثل مكتبة الجامعة العثمانية ومكتبة جامعة علكرة ومكتبة خدابخش في بيهار ودار المصنفين بأعظم كيره ، وندوة المصنفين بدلهي ودائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد ، وهذا قليل من كثير من مراكز الثقافة الإسلامية والعربية المنتشرة في الولايات المختلفة في الهند ومدنها وقراها وتهيئ هذه المراكز الفرص للمسلمين لتفهم أمور دينهم ودراسة العلوم الإسلامية ، واللغة العربية ونشرها بين أوساط الشباب في طول البلاد وعرضها .
الآثار الإسلامية الخالدة
ترك الفن الإسلامي أثرا خالدا في الفنون الهندية ، ونرى معالم هذا الفن جلية في الآثار التاريخية التي خلفها المسلمون في شتى أنحاء الهند ، وفيها آثار إسلامية محضة مثل الجوامع والمعاهد الدينية وكذلك الآثار التي تتجلى فيها النقوش العربية والفنون الإسلامية إلى جانب النقوش والفنون الهندية مثل القلاع الكبرى والمناثر الفخمة والأماكن التاريخية الأخرى المزحرفة بالفن الإسلامي – الهندي .
وأبرز ما يشاهد فيه الفن الإسلامي ، فن البناء الهندي ، إذ جلب معهم المسلمون القادمون من آسيا الوسطى ، والشرق الأوسط أفكارا جديدة وفنونا جميلة ، وكان العصر المغولي في الهند العصر الذهبي للفن المعماري في البلاد ، ويعود الفضل في بناء عدد من المباني الجميلة والقلاع الفخمة ، والمساجد الضخمة إلى الأباطرة المغول وفي مقدمتهم الأمبراطور “شاه جهان” الذي خلد في الهند قلعته الحمراء ، ومسجده الجامع الكبير و”تاج محل” حد عجائب العالم السبع ، وتقوم هذه الآثار شامخة ناطقة بدور المسلمين الفعال في شتى نواحي الحياة في البلاد وبرهانا ساطعا على سماحة الهند ورحابة صدرها تجاه الثقافات العديدة ، والفنون المختلفة ومصداقا لشعارها “الوحدة في التنوع” .
الأعياد الإسلامية
ويحتفل المسلمون في الهند بأعياد ومناسبات دينية عديدة كإخوانهم في سائر أنحاء العالم العربي والإسلامي ، وتتجلى في هذه المناسبات مظاهر الأبهة والابتهاج ، ويهتمون في مثل هذه المناسبات الدينية بالشعائر والعادات التي شرعها الإسلام ، ومن الأعياد الكبرى التي تعطل فيها المصالح الحكومية والمكاتب الرسمية والمحال العامة وتشترك معهم الحكومة وبقية الشعب في الاحتفالات ومظاهر السرور ، عيد الفطر وعيد الأضحى ، اللذين يعقبان فريضتين من فرائض الإسلام الأساسية ألا وهما ، الصوم والحج ، ويؤدي المسلمون عادة صلاة العيد في الميادين العامة المخصصة لها أو المساجد ، ويعتمدون في أيام العيد إلى التوسع والتكرم في الإنفاق على الأهل والأقرباء والأصدقاء ، ويتبادلون التهاني والتحيات ، ومن الأعياد الإسلامية الأخرى في الهند المولد النبوي الشريف ، وذكرى الهجرة النبوية ويوم عاشوراء ، وفي الاجتماعات العامة التي تقام في المدن والقرى ، في هذه المناسبات يحضرها رجال الدولة وزعماء البلاد من المسلمين ومن الطوائف الأخرى أيضا .
وتقوم الحكومة في مثل هذه المناسبات بتقديم المساعدات والخدمات اللازمة للمسلمين ، بتوزيع مواد تموينية خاصة وتخصيص إجازات للموظفين والعمال المسلمين ، وتقديم قوات أمن ومساعدات طبية وغيرها لتكون في حوزتهم ، ومتناول أيديهم في الاحتفالات الرئيسية والمواكب الكبرى التي ينظمونها في مثل هذه المناسبات السعيدة .
وهكذا تضطلع الهند بنصيبها كاملا بوصفها ثالث دول العالم في عدد المسلمين مع جميع المظاهر الإسلامية ومقوماتها ومعالمها وآثارها وتحتفظ بوحدتها وسماحتها وثقافتها المشتركة الرفيعة .