الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 18-ديسمبر-1986 م
في سنة 1882م وقف المستر “جلاد ستون” رئيس وزراء بريطانيا في مجلس العموم البريطاني يمسك بيده نسخة من المصحف الشريف ويقول لأعضاء المجلس :
“إنه مادام هذا الكتاب باقيا في أيدي المصريين فلن يستقر لنا فرار في تلك البلاد” .
وقد أدرك تماما أن القرآن الذي هو دستور الإسلام ولغته العربية هو صخرة المقاومة التي يرتطم بها الاستعمار الصليبي فيجب أن تتحطم تلك الصخرة ، وفي نفس الفترة جاء القسيس “دنلوب” المتخرج في كلية اللاهوت البريطانية إلى مصر ليرسم سياسة التعليم فيها ، ووضع “دنلوب” سياسته التعليمية المرسومة التي أتت في النهاية ثمارها المرجوة منها .
ورأى الاستعمار البريطاني أن مهاجمة العقيدة الإسلامية مهاجمة مباشرة تؤدي إلى عكس المطلوب منها إذ تنبه المسلمين للخطر ، فيجب اتباع الطريق الملتوية البطيئة الماكرة التي اشتهرت بها بريطانيا منذ القرون ، وقام “دنلوب” بفتح مدارس ابتدائية حكومية تدرس فيها العلوم المدنية واللغة الإنجليزية ، والذي يتعلم فيها يجيد اللغو الإنجليزية ويعرف العلوم العصرية ويضمن وظيفة حكومية ويقبض راتبا مغربا ، وانصرف الناس الموسرون أبناء رجال الدولة وأعيان البلد القادرون على دفع المصروفات وأبناء بعض الأمر الدينية المحافظة ، وكان يدير تلك المدارس الإندليز ، كما كان معظم المدرسين فيها من الإنجليز أو من خريجي المدارس الحكومية الإنجليزية في مصر أو في الخارج .
بداية تسميم المناهج التعليمية
ومن الملاحظ المطلوب في هذا الصدد أن المناهج التعليمية التي كان يضعها الإنجليز بأنفسهم في هذه المدارس ، لتكون مختلفة – سواء في المواد المقررة أو في أسلوب تدريسها وإدارتها – عن مثيلاتها في مدارس بلادهم ، مع أنهم يعرفون أصول التربية الصحيحة ووسائل التعليم الحقة ، الأن أهداف السياسة التعليمية التي رسمها “دنلوب” وكان ينفذها النظار الإنجليز لتلك لمدارس لم تكن تخريج متعلمين حقيقيين قادرين على التفكير والابتكار والاختراع ، بل كانت تهدف إلى تحقيق أهداف خفية عديدة ومنها تخريج عدد من حاملي الشهادات الرسمية فيطيعون بما يؤمرون وينفذون ما يشار إليهم من السادة الحكام الإنجليز وكذلك تحويل الناس عن الأزهر ومعاهده وسائر المدارس الحكومية الإلهية ، وأخيرا الزرع في قلوب النشئ الجديد التوقير والتقديس بكل ما هو غربي والتحقير بكل ما هو شرقي !
فبينما كانت المناهج التعليمية في مدارس إنجلترا تربي تلاميذها على أن يطلعوا على الموضوع الواحد في مصادر مختلفة ليتربى فيهم حب الإطلاع من ناحية والقدرة على الابتكار والاختراع من ناحية أخرى ، ثم يمتحنون فيما استفادوه من دراساتهم لا فيما حفظوه عن ظهر قلب فقط ، كان يدرس المقرر في هذه المدارس في صورة واحدة من كتاب واحد لأن الصورة الواحدة المحدودة تحدد تفكير الدارس وتقتل فيه ملكة الابتكار ، لأن الابتكار ينشأ من رؤية الشيئ الواحد في صور متعددة ومن زوايا مختلفة فيتعود الزمن على التحرير والتبديل ، وينشأ عنه الابتكار والتطوير .
وكانت المقررات الجغرافية والتاريخية الموضوعة طبقا لتلك المناهج تتضمن دروسا تلقن التلاميذ أن مصر – مثلا – بلد زراعي لا يمكن ان تنشأ فيه الصناعة لأنه ليس فيه فحم ولا حديد وأن أوربا على وجه العموم وإنجلترا بصفة خاصة بلاد متقدمة لأنها بلاد صناعية ، لأن فيها الفحم والحديد ، فتنشأ في قلوب التلاميذ فكرة بأن بلادهم ستبقي متأخرة لأنه لا يوجد فيها عنوان التقدم أي الصناعة ووسائلها ويسرى في نفوسهم اليأس والوهن فتتوجه إلى الغرب الصناعي المتقدم بهالة من الرهبة والرغبة .
من آثار المناهج السمومة
وأما الأثر المباشر لهذه المناهج المسمومة في الغزو الفكري عامة ، والتحدي العقدي خاصة فبيانه كالآتي :-
إن المدارس التبشيرية التي كانت تديرها الجمعيات التبشيرية تحت حماية الحكومات الاستعمارية تبدأ نشاطها اليومي بالصلاة في كنيسة المدرسة والتوجه إلى الله بالدعاء المسيحي – بما في ذلك التلاميذ المسلمون ، بحكم النظام المدراسي – فيرتبط الدين في وجدان التلاميذ بالنشاط والتطلع والحياة الباكرة القوية المشرقة ، وأما في المدارس الحكومية التي تدرس العلوم المدنية واللغات الأجنبية حسب المناهج التي وضعها الإنجليز ويديرها أيضا – في معظم الأحوال – النظار الإنجليز أو أذنابهم كما سبق ذكره ، فتكون حصص القرآن والمواد الدينية قطعا متناثرا من هنا وهناك وتوضع تلك الحصص في نهاية اليوم المدرسي وقد مل التلاميذ وأحسوا بضرورة الانفلات من سجن المدرسة إلى فسحة الشارع أو البيت ، وأدهى وأمر من هذا وذاك أن هذه الحصص يقوم بتدريسها مدرسون طاعنون في السن ضعاف البنية وقد اشتغلت رؤوسهم شيبا وأحدودبت ظهورهم وهنا ، فيرتبط الدين في وجدان التلاميذ بالملل والضجر والعجز والشيخوخة .
وليس بخاف على المشرفين على هذه المدارس وواضعي مناهجها ، ما اللغة العربية من ارتباط وثيق بالإسلام ومكانة في قلوب المسلمين جميعا فوضعوا نصب أعينهم تحقيرها والزراية بها وجعل شخص معلم اللغة العربية وموضع الزراية والتحقير في نفوس التلاميذ بل وفي المدرسة والمجتمع كله ، فبينما يكون اختيار معلمي القرآن والمواد الدينية واللغة العربية من كبار السن وضعاف البدن وتكون حصصهم في أوقات الضجر والنفور ، يقبض هؤلاء المدرسين رواتب أقل مما يقبضها زملاؤهم الذين يقومون بالعمل معهم في نفس المدرسة ويأخذون جدولا مماثلا في الحصص أو أكثر ، من مدرسي اللغة الإنجليزية أو التاريخ أو الجغرافيا أو الرياضة ، وفي الحال تتميز الطبقات تميزا واضحا ، فطبقة موضع الاحترام لدى التلاميذ في المدرسة المجتمع وتنال المكانة الاجتماعية والاقتصادية وتعيش حياة رغدة وأخرى تكون محبل الازدراء لدى التلاميذ في المدرسة والمجتمع وتتواضع وتنطوي على نفسها وتنزل مكانتها الاجتماعية والاقتصادية .
تشويه صورة الإسلام عن طريق التعليم
وأما المقررات الدينية في تلك المدارس فتسير على النهج الذي يهدف إلى إخفاء حقيقة الإسلام وتشويه صورته الأصلية فلم تكن إلا نتفا متناثرة تضر أكثر مما تنفع ، فكل ما يدرس الطلاب عن الإسلام أنه مجموعة من العبادات التي يؤديها الإنسان ، ثم يدرسون مجموعة من الشبهات وقصص الغزوات والفتوح التي حدثت في تاريخ المسلمين ومن ثم قد فرغت مهمة الإسلام من الحياة ولم يبق له مهمة يؤديها في واقع الحياة البشرية ، فلا يدرس شيئا عن الإسلام كنظام يحكم الحياة البشرية من جميع جوانبها ولا كحضارة امتدت في أقطار الأرض وأدوار الزمن أكثر من ألف عام ، وولا كحركة علمية أضاءت وامتدت في أقطار الأرض وأدوار الزمن أكثر من ألف عام ، ولا كحركة علمية أضاءت وجه الأرض كله واستقت منها أوروبا ذاتها لتكون نهضتها الحديثة ، ولا نظام اقتصادي قويم ولا حركة حررت ضمير الإنسان من جميع أنواع الخرافات والخزعبلات ، وهذه هي بعض الحقائق الرئيسية للإسلام الذي جاء كقوة كونية تهدي الناس إلى النور وتحقق لهم سعادتي الدارين .
وفي نفس الوقت تتضمن تلك المناهج مقررات عن تاريخ أوربا كأنها الحضارة والعلم والتقدم والعدالة الاجتماعية والحرية والمساواة بحيث تظهر أن التقدم ابتدعه الفكر الأوربي والحقوق الإنسانية وضعها النظام الأوربي ، وباختصار أن الغرب هو العملاق الذي لا يقهر والعالم العربي الإسلامي هو القزم الذي عله أن يقتدي الغرب ليتقدم وليتطور بل ليعيش في أمن وسلام .
ونرى – حتى اليوم – آثار المناهج التعليمية المدسوسة وذلك الكيد الاستعماري الصليبي المحكم ، عاملة في جسم العالم العربي والإسلامي ، في أفكاره وسلوكه وعقائده وأخلاقه ، وقد أصابت هذه الضربة في واقع الأمر العقيدة الإسلامية واللغة العربية معا ، واستطاعت – إلى حد كبير – إلى تشويه المفهوم الإسلامي في النفوس وزرع المفهوم الأوربي – المسيحي في قلوب الناس ، وذلك نتيجة للجهود المستمرة التي يبذلها الاستعمار والتبشير الغربي منذ قرن من الزمان عن طريق فتح المدارس العلمانية والمعاهد اللغوية غير مرتبطة بمدارس الرهبان والراهبات والمدارس اليسوعية والارسالية وغيرها من ذوات الصبغة الدينية الصريحة وذلك لتوسيع نطاق عملية دس الأفكار الغربية والاستعمارية بعيدة عن الشبهة الدينية وكذلك عمل الرهبان المبشرين محدود ولا يفي بالغرض الواسع المدى .
الخطوط الأساسية لمناهج الاستعمار التعليمية
وأرى من الأنسب هنا أن نقف وقفة قصيرة بل متأملة عند مقتطفات من أخطر كتاب يعرض نشاط التبشير في العالم العربي والإسلامي ووسائله وأهدافه ، ومن نص كلام واضع الخطوط الأساسية لسياسة الاستعمار الصليبي تجاه الإسلام والمسلمين ، عن طريق التربية والتعليم ، لزحزحة العقيدة الإسلامية من نفوس المتعلمين ، وأما الكتاب فهو الذي صدر مترجما من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية باسم :
الغارة على العالم الإسلامي سنة 1350 هـ ثم سنة 1381 هـ ، وقد ترجمه السيدان مساعد اليافي ومحب الدين الخطيب ، وأما المقتطفات التالية فمن مقدمته لمسيو أ. ل. شاتليه ويقول شاتليه في مقدمته في معرض الكلام عن موضوع السياسة التي ينبغي أن تتبع تجاه العالم العربي والإسلامي :-
ينبغي لفرنسا أن يكون عملها في الشرق مبنيا قبل كل شيئ على قواعد التربية العقلية ليتسنى لها توسيع نطاق هذا العمل والتثبت من فائدته ، ويجدر بنا لتحقيق ذلك بالفعل أن لا نقتصر على المشروعات الخاصة التي يقوم بها الرهبان المبشرون وغيرهم ، فتبقي مجهوداتهم ضئيلة بالنسبة إلى الغرض لا يمكن الوصول إليه إلا بالتعليم الذي يكون تحت الجامعات الفرنساوية نظرا لما اختص به هذا التعليم من الوسائل العقلية والعملية المبنية على قوة الإرادة وأنا أرجو أن يخرج هذا التعليم إلى حيز الفعل ليبث في دين الإسلام التعاليم المستمدة من المدرسة الجامعة الفرنسية .
ثم يقول المسيو ” شاتليه” في نفس المقدمة ، مشير إلى نشاط التبشير الصليبي والغزو العقدي في الخليج العربي ، إذ يستشهد بفقرات من رسالة أرسلها إليه زعيم حركة النشاط التبشيري في البحرين وعمان خاصة والشرق الإسلامي عامة وهو القسيس “صموئيل ذويمر” في 2 أغسطس سنة 1911م :-
إن لنتيجة ارساليات التبشير في البلاد الإسلامية مزيتين : مزية تشييد ، مزية هدم أو بالحري مزيتي تحليل وتركيب والأمر الذي لامرية فيه أن حظ المبشرين كم التغيير – الذي أخذ يدخل عقائد الإسلام ومبادئه الحلقية في البلاد العثمانية والقطر المصري وجهات أخرى – هو أكثر من حظ الحضارة الغربية منه ، ولا ينبغي لنا أن نعتمد على إحصائيات التعميد في معرفة عدد الذين تنصروا رسميا ن المسلمين لأننا هنا واقفون على مجرى الأمور ومتحققون من وجود مئات من الناس انتزعوا الدين الإسلامي من قلوبهم واعتنقوا النصرانية من طرف خفي .
التعليم والتبشير والاستعمار
ويقرر هذا الكلام صراحة أن التغيير الذي دخل على عقائد الإسلام ومبادئه الخلقية يرجع إلى نشاط التبشير الذي يحميه الاستعمار الصليبي ، أكثر مما يرجع إلى الحضارة الغربية نفسها ، ويقول رأس هذه الحركة التبشرية المزدوجة – الاستعمارية والصليبية والحضارية – المسيو “شاتليه” بكل صراحة ووضوح : أن هدف الاستعمار الصليبي من نشر اللغات الأوربية في البلاد العربية والإسلامية هو أولا قبل كل شيء هدم العقيدة الدينية وإضعاف الاعتقاد بالفكرة الإسلامية لأن هذا الضعف سيتبعه انحلال الروح الدينية واضمحلال الكيان الإسلامي :-
“ولا شك في أن ارساليات التبشير من بروتستانتية وكاثوليكية تعجز عن زحزحة العقيدة الإسلامية من نفوس منتحليها ، ولا يتم لها ذلك إلا ببث الأفكار التي تتسرب مع اللغات الأوربية ، فنشر اللغات الإنجليزية والألمانية والهولندية والفرنسية يحتك الإسلام بصحف أوربا وتتمهد السبل لتقدم إسلامي مادي وتقضي ارساليات التبشير لبناتها من هدم الفكرة الدينية الإسلامية التي لم تحفظ كيانها وقوتها إلا بعزلتها وانفرادها ، ثم يعترف شاتليه بكلام صريح لا يحتاج إلى تعليق بأن هدفهم الهدم وليس هو الإنشاء ، فيقول :”إذ الضعف التدريجي في الاعتقاد بالفكرة الإسلامية وما يتبع هذا الضعف من الانتقاص والاضمحلال الملازم له سوف يفضي بعد انتشاره في كل الجهات إلى انحلال الروح الدينية ن أساسها لا إلى نشأتها بشكل آخر ، واختتم “شاتليه” مقدمته قائلا : فإن نزع الاعتقادات الإسلامية ملازم دائما للمجهودات التي تبذل في سبيل التربية النصرانية ، والتقسيم السياسي الذي طرأ على الإسلام سيمهد السبل لأعمال المدنية الأوربية إذ من المحقق إن الإسلام يضمحل من الوجهة السياسية وسوف لا يمضي غير زمن قصير حتى يكون الإسلام في حكم مدنية محاطة بالأسلاك الأوربية .
أضعاف العقيدة عن طريق اللغة
وهنا ينبغي لنا أن نقف لحظة تفهم وتعقل لئلا نقع في فخ الأعداء المكرين من باب آخر ، فإننا رأينا أن الاستعمار الصليبي يستخدم المناهج التعليمية الخاصة بتعليم اللغات الأوربية لإضعاف العقيدة الإسلامية ، وفي الوقت نفسه فإن هذه اللغات هي الوسيلة الكبرى لأنواع من المعارف وكذلك الاتصال الدولي في عصرنا الحاضر ، وأن السبيل الحكيم للتوفيق بين الطرفين المتباعدين هو تعلمها بوعي وإرادة على النحو الذي يريده لنا الاستعمار ، ولنا مثل أعلى في هذا المضمار فإن المسلمين الأوائل تعلموا كثيرا من اللغات العالمية كاليونانية والفارسية والهندية وغيرها من لغات العلوم والمعارف في تلك العصور دون أن تتأثر بذلك عقيدتهم بل تعلموها لخدمة هذه العقيدة ومد نشاطها إلى سائر فروع المعرفة ، فقد أصبح المسلمون – بفضل ذلك التعلم الواعي – علماء العلم في شتى فروع المعرفة الإنسانية مع بقائهم مسلمين حقيقيين ، ومن ناحية أخرى أن المسلمين نشروا اللغة العربية في البلاد التي اتصلوا بها بوسائل صريحة ومستقيمة كما نشروا فيها الإسلام والحضارة الإنسانية القائمة على الأخلاق النبيلة والعلم والمعرفة ، ويشهد التاريخ باعتراف الأصدقاء والأعداء على حد سواء ، أن المسلمين لم يستخدموا أية وسيلة ملتوية أو أي تحايل أو ضغط أو إكراه لسلخ الناس عن عقائدهم وأفكارهم فالذين اعتنقوا الإسلام إنما فعلوا ذلك عن اختيار وإرادة حرة ، وقد خلط كثير من الكتاب الغربيين والمستشرقين – عمدا أو جهلا – بين الغزو المسلح الذي قام به المسلمون لفتح بعض البلاد وبين نشر العقيدة الإسلامية بالقوة ، والدليل على بطلان هذه الدعوى الظالمة أن المسلمين قد تركوا الناس في تلك البلاد بعد فتحها أحرارا حرية كاملة في أن يعتنقوا العقيدة التي يريدونها بلا ضغط ولا إكراه فظلوا يهودا أو مسيحيين أو غيرهم إذا شاؤوا بحماية دولة المسلمين ورعايتهم أو دخلوا في الدين الإسلامي بمحض إرادتهم واختيارهم .