الخليج اليوم – قضايا إسلامية – الأحد 23-فبراير-1986 م
روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده والإمام أبو داود في سننه حديثا شريفا جامع الكلم ووافر الحكم وفاتح الهمم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في زمان ومكان وظروف فقال الرسول الأعظم عليه أفضل الصلاة والسلام منبها وموقظا ، بعبارات موجزة ومعجزة ، وبتصوير للواقع الحقيقي بأروع وأوضح صورة تنعكس أشعتها الناصعة البيضاء مدى الأيام والدهور أمام أعين الناظرين وأنظار العقلاء الفاهمين : “يوشك أن تداعى عليكم كما تدعى الأمم نداعي الأكله على قصعتها فقالوا : أمن قله يومئذ ؟ قال : لا ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ينزع الله مهابة عدوكم منكم ويسكنكم مهابتهم ، ويلقي الله في قلوبكم الوهن . وقالوا : ما الوهن يا رسول الله ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت ” .
الإسلام دين الكيف لا الكم !
وإذا نظرنا بعين التحقيق والإمعان إلى المبادئ الإسلامية الأصيلة وتعاليمها الصحيحة ومناهجها القويمة نرى أن الاعتبار الأول والأهم فيها للكيف لا للكم لأن الكيفية في ميزان الحقيقة والفطرة السليمة هي التي تحدد ماهية الأشياء ووزنها وثقلها في تقرير مصيرها ، وإلى هذه الحقيقة الثابتة يشير القرآن الكريم : “كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ” . وأن مقياس الغلبة هنا كان الكيف أو الوصف الذي تتحلى به تلك الفئة القليلة ، عددا وعددا وإن كان في الظاهر كم الفئة الكثيرة أكثر عددا وعددا وإن هذا الكيف الذي تتميز به تلك الفئة القليلة هو الذي حول مقياس الغلبة من جانب الفئة الكثيرة وصفوفها إلى جانب الفئة الكثيرة وصفوفها إلى جانب الفئة القليلة وصفوفها .
وأن هذا المنطق الطبيعي منطبق في جميع الأحكام على الأفراد والجماعات في جميع مراقب الحياة ، فإذا تجمع مائة شخص من ضعاف البنية وعديمي الخبرة وفاقدي الهمة والشجاعة أمام عشرة من أشداء العضلات وأصحاب الخبرات وذوي الهمم والعزائم والقدرات الفنية في المصارعة أو الملاكمة أو المقاومة فلا شك في أن كثرة الكم في الأعداد وعظمة الضخامة في الأجساد لا تساعدهم على الصمود والغلبة أمام تلك القلة المجربة القادرة على الصمود والمقاومة .
وهذا هو شأن الأمم والشعوب والدول في كل مكان وزمان ، ورب دولة صغيرة ناضجة وقوية في صفات الحياة الناجحة ومتسلحة بأسباب الحياة في منطق الفطرة الإنسانية والطبيعية الدنيوية .
غلبت دولة أو مجموعة من الدول التي هي أكثر منها كما في عدد السكان ومساحات الأراضي وكثرة المباني ولكنها “غثاء كغثاء السيل” .
إنما الأعمال بالنيات
ولعل سر ربط الإسلام صحة واعتبار أعمال الإنسان كلها بالنية ومحلها القلب والضمير ، وقد بين العلماء متعلق “ب” في لفظ “بالنيات” بكلمات عديدة في معانيها المتقاربة المؤدية إلى مفهوم عام شامل إلا وهو ربط قيمة كل عمل بميزان كيفه لا بظاهره وصورته وشكله ومنظره ، وقالوا في هذا الصدد : إنما “صحة” الأعمال بالنيات ، وإنما “اعتبار” الأعمال بالنيات وإنما “كمال” الأعمال بالنيات ، وكذلك : إنما “جزاء” الأعمال بالنيات فالنية هي التي تجعلها صحيحة أو معتبرة أو “كاملة” أو مستحقه للجزاء وأما النية فهي كيفية نفسانية وليس لها دخل في الكمية المظهرية .
وقد ربط القرآن الحكيم نهضة الأمم وانحطاطها وتقدم الشعوب وتخلفها ، وانتصار الدول وانهزامها بقاعدة فطرية ذهبية وقد حان الأوان للأمة الإسلامية مع أسف شديد وحزن عميق في قلب كل ناصح أمين لأن تنتبه إلى هذه القاعدة وتتمسك بها لئلا تفلت من أيديها مرة أخرى كما حدث في الماضي بوهن تسرب إلى قلوبهم وجهل تفشي في صفوفهم وكيد ساق لها أعداؤها إلا وهي قوله عز وجل : “إن الله لا يغير ما قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ” (الرعد) .
وأعظم وأقرب مثل لمعرفة الأثر الذي يتركه التغير الذي يحدث في داخل نفس الإنسان على شخصيته ونظريته وفكرته وأسلوبه في حياته ونجاحه في مهمته هو التغير الذي حدث لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بين لحظة وأخرى ، وبعد أن كان من أشد الخصوم للإسلام ورسوله تحول إلى أشد مناصريه وفي مقدمة المدافعين عنه بعد أن غير ما في نفسه من عقيدة جاهلية وآمن بالإسلام وصدق بالرسول واتخذه سبيلا .
وهنا ينشأ السؤال الهام الخطير ، وما الذي جعل من عمر الذي كان قبل ساعة عدوا لدودا للإسلام صديقا حميما له بعد ساعة من الزمن أو أقل ؟ .
وهل تغير شيء من كمه المادي – من لحمه أو دمه أو ثيابه أو لحيته أو حسبه ونسبه ؟ كلا ثم كلا ! وحتى بقي اسمه كما هو ، وكان هو “عمر” قبل هذا التحول الخطير وظل “عمر” كذلك إلى الأبد ، وأما الذي حدث فهو تغير في كيفية نفسه لاقى كميتها ، وفي باطنها لا في ظاهرها .
وإذا عدنا إلى مبدأ الموضوع نرى أن حب الدنيا والشغف بملذاتها المادية يجعل الإنسان خائفا وجلا أمام كل خطوة وكارها للموت وغافلا عن الاستعداد للقائه راضيا مرضيا ، مع أنه حقيقة ثابتة يحكمها على كتفه في كل حركاته وسكناته ، فلماذا يضعف أما الواقع ؟ فليكن شجاعا حاذقا في ملعب الحياة ! .