على هامش التجارب الرمضانية
حــوار صـريــح حــول صـلاة الـتـراويـــح
الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 11-يونيو-1987 م
– هل التراويح سنة نبوية أو سنة الخلفاء الراشدين ؟
– هل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى في ليالي رمضان نافلة بالجماعة عقب صلاة العشاء مباشرة وقبل جوف الليل ؟
– هل تسن في ليالي رمضان ثلاث أنواع من الصلوات : التراويح ثم قيام الليل ثم التهجد الذي هو التنفل ليلا بعد النوم ؟
– إن كان المراد بقيام رمضان صلاة التراويح فما الفرق بين قيام الليل وصلاة التهجد ؟
– إذا كان الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه “ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة” فما حكم صلاة التراويح ثم قيام الليل ثم التهجد بإعداد ركعاتها المعهودة الآن ، من السنة النبوية ؟
أليس العدوان عن طريقة الرسول في العبادات بدعة ؟
هذه بعض التساؤلات والاستفسارات التي تقدم بها بعض الشباب المسلم الغيور ، وأثارها وناقشها بعض الجهات العلمية الإسلامية من خلال علمائها وفقهائها والقائمين على شؤونها العلمية ، خلال أيام وليالي رمضان المبارك المنصرم ، رجاء إلقاء الأضواء عليها تحريرا وتقريرا وبغية التوصل إلى أجوبة شافية وكافية ولو على جوانب منها ، وفي ضوء حماس وإخلاص هؤلاء الأخوة الأعزاء رأيت أن أخوض في هذا الخضم الجارف الذي جرى تياره في أرجاء العالم الإسلامي وفي أوساط علماء الأمة وفقهائها ، منذ السنين بل القرون ، من ثنايا مؤلفاتهم ورسائلهم وفتاواهم ، ومن خلال مناقشاتهم ومحاضراتهم ومناظراتهم ، أخوض فيه بحوار مفتوح وصريح ، عن طريق إبداء بعض الآراء والأفكار بصورة اجتهادية مبسطة لا بصورة قطعية مؤكدة لأن البحث المتأنى المنصف بدون تحيز أو تعسف ، هو الذي ينير الطريق بنبراس الحق علما ويقينا الموضوعات وتلك المسائل ليست من الشؤون العائلية أو الأمور الاحتكارية لأفراد أو جماعات أو لهيئة أو طائفة فإنها من القضايا الإسلامية الهامة للمسلمين عامة ، وقد منح الإسلام حق البحث والتفكير والمناقشة والحوار حول هذه القضايا والمسائل ، لكل مسلم يتوفر فيه القدر الكافي من الفهم السليم والعلم الصحيح مع صدق النية وإخلاص القلب والله هو المستعان وعليه والتكلان .
الأصل في مشروعية صلاة نافلة خاصة في رمضان
إن الأصل في مشروعية صلاة نافلة خاصة في رمضان إنما هو حديث قولي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وحديث فعلي رواه البخاري أيضا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، فروى الإمام البخاري في صحيحه ، في باب “فضل من قام رمضان” يقول :”من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” ، وأما الحديث الفعلي فهو ما رواه الإمام البخاري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل وفي رواية مسلم :”وذلك في رمضان” فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصلى بصلاته ، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال : أما بعد فإنه لم يخف على مكانكم ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها” ، قال ابن شهاب : فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك ، ثم كان الأمر على ذلك أيضا في خلافة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر رضي الله عنهما ،(فتح الباري شرح البخاري : ج ، ص 251 ، والموطأ للإمام مالك ج 1 ، ص 122) .
وقد تبين من هذين الحديثين الصريحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حث على القيام في رمضان وبين شروطه اللازمة من الإيمان والاحتساب والإخلاص ، وفضله العظيم من غفران الذنوب وجزيل الثواب وذلك في بيانه القولي ثم أرشد أمته بقدوته الفعلية إلى الوقت المفضل لذلك القيام أي جوف الليل وإلى كيفية أدائه إما بانفراد أو جماعة وفي البيت أو في المسجد وحكم تشريعه أي سنة وغير مفروضه .
كيفية قيام رمضان من عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه
ومن الثابت من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله بنصوص الأحاديث المذكورة أنه قد حث الأمة على القيام في شهر رمضان قولا إذ قال : “من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” ،ثم أوضح وقته وكيفيته فعلا كما شرحته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، وكان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر رضي الله عنهما .
وروى الإمام البخاري رضي الله عنه عن أبي شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال :”خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه فيصلي الرجل ويصلي بصلاته الرهط ، فقال عمر أنى أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثم عزم فجمعهم على أبي كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى ، والناس يصلون بصلاة قارئهم قال عمر : نعمت البدعة هذه ، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون لها” يريد آخر الليل ، وكان الناس يقومون أوله (فتح الباري ج 4، ص 25) ، والثابت من هذه الرواية أن الصلاة المسنونة في ليالي رمضان باسم قيام رمضان كما في الحديث المذكور ، يؤديها الناس أحيانا بانفراد وأحيانا بالجماعة ، وما كان هناك أيضا في حالة أدائها جماعة إمام واحد يصلي خلفه الجميع ، ولم يرد أي إنكار على هذه الطريقة من النبي صلى الله عليه وسلم أو من أحد من الصحابة الكرام بعد وفاته عليه السلام ، وأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنما اخذ أصل سنة قيام رمضان من قول المبي صلى الله عليه وسلم ومشروعية الجماعة في أدائها من فعله صلى الله عليه وسلم ولكنه قام بتنظيم جديد في إطار ذلك الأصل إذ جمع الأفراد الذين كانوا يؤدونها فرادى والجماعات التي كانت تؤديها متفرقة في أركان المسجد وزواياه خلف إمام واحد وهو القارئ المعروف الصحابي الجليل أبي بن كعب رضي الله عنه وكذلك أجاز لهم لأدائها في أول الليل قبل النوم مع بيانه لهم فضل أدائه في آخر الليل أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد وصف بنفسه هذا التنظيم الجديد بقوله “نعمت البدعة هذه” .
حكم سنة الخلفاء الراشدين
أما السؤال الوارد في هذا الصدد فهو إذا كان جمع الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس على إمام واحد في قيام رمضان وموافقته على أدائه في أول الليل وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤديه في جوف الليل أي آخره كما أشار عمر رضي الله عنه بنفسه إلى أفضلية ذلك الوقت حيث قال : ” والتي ينامون عنها أفضل .. تنظيما جديدا قائما على الأصل الثابت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا ومختلفا عنه شكلا وتفصيلا من بعض الجوانب فما هو موقف هذا التنظيم العمري من السنة ؟ فنقول : إن المسلمين مأمورون بالنص الشرعي باتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين فيقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين” ، فلا حرج في القول إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد وضع تنظيما جديدا من حيث الشكل الأدائي والتوقيت الجوازي ، في شأن قيام رمضان على قاعدة التشريع النبوي الأصلي وعلى المسلمين اتباعه كسنة من سنن الخلفاء الراشدين وقد جرى العمل عليه في كثير من المدن الإسلامية بعد زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
استحداث اسم “التراويح”
وجدير بالذكر والاعتبار أن اسم التراويح لم يرد ذكره على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أو الخلفاء الراشدين في معرض الحديث عن قيام رمضان أو قيام الليل أو في شأن أي صلاة أخرى ، ولم يعرف أيضا بالتحديد الزمن أو المكان الذي ابتدأت فيه هذه التسمية وكذلك لم ينص أحد من المؤرخين أو الباحثين من أئمة الحديث أو الفقه ، على الشخص الذي ورد على لسانه هذا الاسم لأول مرة ، وجملة ما ورد في وجه هذه التسمية أن الناس كانوا يستريحون خلال الصلاة جماعة في ليالي رمضان بعد كل أربع ركعات من طوال القيام بالقراءة من طوال السور من القرآن الكريم .
وقال الشيخ حافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري في معرض ذكر سبب هذه التسمية :” سميت الصلاة في الجماعة في ليالي رمضان التراويح لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين” (فتح الباري ج 3 ، ص 25) ، وكذلك يقول الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم :”المراد بقيام رمضان صلاة التراويح” (ج 1 ، ص 259) ، وقد أورد الإمام البخاري رضي الله عنه حديث قيام رمضان وقصة عمر بن الخطاب رضي الله عنهفي صحيحه ، فيما سماه :”كتاب صلاة التراويح” ، ولم يذكر أحد من المحدثين أو الفقهاء المتقدمين أو المتأخرين في رواياتهم ومؤلفاتهم لفظ التراويح على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أو على لسان أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، وقد ذكر المتأخرون سبب هذه التسمية بدون الإشارة إلى تحديد الزمن أو الشخص الذي استعمل هذا الاصطلاح لأول مرة وكذلك أثروا التبويب بهذه التسمية عند الكلام عن قيام رمضان ومسائله ورواياته وأحداثه في كتبهم ورسائلهم ، وأن تسمية صلاة من أفضل الصلوات المسنونة في ليالي من أفضل الشهور بمثل هذه الأسماء التي لا تليق بمقامها ومكانتها ، لأنها مقام الخشوع والتضرع والاستكانة فلا ينبغي أن يطلق عليها كلمات تدل على الاستراحة والترويحة والراحة المادية مع أن في تفضيل هذه التسمية – كما أرى وأفهم من فقه التشريع وفحوى الاتباع في العبادات وأسمائها وكيفياتها ومنع الاستحداث فيها عدول عن الاتباع لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وعدم الالتزام بذكر الأمور الدينية ، وخاصة العبادات التعبدية منها بأسمائها المنصوص عليها في السنة فاستبدال اسم قيام رمضان أو قيام الليل باسم صلاة التراويح استحداث وابتداع وخروج عن المعهود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدين .
وأن الرواج أو الشيوع لا يعتد دليلا في مفهوم التحقيق العلمي ولا يعتبر حجة في التدقيق الشرعي في مقابل النص الصحيح المحكم .
الاختلاف في عدد الركعات
ولم يرد نص صريح في أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم أو أقوال الصحابة رضوان الله عليهم حول عدة الركعات المطلوبة أو المفضلة في صلاة قيام الليل المعروفة بصلاة التهجد أيضا أو في صلاة قيام رمضان المشهورة اليوم بصلاة التراويح ، وأن النص الوحيد المروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح هو قوله : “من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” بدون أية إشارة إلى حصر ركعاته ، وكذلك لك يرد أي ذكر نصا أو تلميحا لعدد الركعات في رواية البخاري عن عائشة رضي الله عنها عن كيفية صلاته صلى الله عليه وسلم في ليالي رمضان من جوف الليل أو في روايته عن عبد الرحمن القاري حول جمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس في صلاة قيام رمضان في المسجد على إمام واحد ، وهذه هي أصح الروايات الثلاث الواردة في موضوع صلاة قيام رمضان أو صلاة التراويح على حد التعبير المستحدث ، فلم يرد في أي منها نص يشير إلى عدد ركعاتها .
وتدل الروايات المدونة في بعض كتب الحديث والفقه على أن الاختلاف بين العلماء في العدد المستحب في قيام رمضان بعد عصر الخلفاء الراشدين ، وأول ذكر ورد عن عدد ركعات صلاته صلى الله عليه وسلم في رمضان في حديث صحيح هو ما رواه الإمام البخاري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة رضي الله عنها : كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى رمضان فقالت : ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا ، فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر قال يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينال قلبي” (البخاري ج 4 ، ص 251) .
وجدير بالذكر أن عائشة رضي الله عنها هي التي أخبرت عن صلاته عليه السلام في المسجد في ثلاث ليالي من رمضان في جوف الليل وصلى رجال معه ، ولما سألها أبو سلمة التابعي الذي لم ير النبي صلى الله عليه وسلم عن عدد ركعات صلاته عليه السلام في ليالي رمضان ، أجابت أنه ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة ، ويفهم من هذا الحديث الصحيح الصريح الأمور التالية ، أولا : إن عائشة رضي الله عنها قد أدركت أن سؤال هذا التابعي عن عدد ركعات صلاته صلى الله عليه وسلم في ليالي رمضان ، وثانيا : أن عائشة رضي الله عنها التي قد أخبرت بالتفصيل عن خروجه عليه السلام إلى المسجد في جوف الليل من ليالي رمضان وصلاته فيه وصلاة الناس معه أدرى وأعلم بعدد ركعات صلاة النبي صلى الله عليه وسلمفي المسجد وفي البيت ، وثالثا : إذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تتابع خروجه إلى المسجد من جوف الليل وصلاته فيه واجتماع الناس حوله وحديثه معهم بدقة وتفصيل ، ويلتجأ إليها كبار الصحابة لمعرفة شتى جوانب حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بدقة وصحة وأمانة فليس من المحتمل أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من إحدى عشرة ركعة في ليالي رمضان إما في المسجد أو في البيت ثم يغيب ذلك عن عائشة رضي الله عنها فتؤكد لتابعي سألها عن ذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة ، في عهد كبار الصحابة الذي كانوا حريصين أشد الحرص على متابعة كل حركة وسكنه في حياته صلى الله عليه وسلم ، ورابعا : أن المحقق في عدد ركعات صلواته النافلة في حياته صلى الله عليه وسلم خلال ليالي رمضان ، سواء في البيت أو في المسجد وبالمجتمع أو بدونها ، لم يزد على إحدى عشرة ركعة ومنها الوتر ، سواء سميناها قيام الليل أو قيام رمضان أو صلاو التراويح .
منشأ العشرين في ركعات التراويح
رأينا من الروايات الصحيحة الثابتة عن قول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن قيام رمضان أنه قال : “من قام رمضان إيمانا وحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” بدون ذكر عدد ركعاته نصا أو إشارة ثم رأينا من فعله صلى الله عليه وسلم كما رواه الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنه ما كان يزيد في صلاته من ليالي رمضان عن إحدى عشر ركعة فقط وجرى عليه العمل في عهد الخلفاء الراشدين أيضا كما اتضح من جوابها على التابعي الجليل أبي سلمة حيث لم يرد أي إنكار أو استدراك من أحد من الصحابة الكرام بشأن ذلك التعيين الواضح المؤكد من أم المؤمنين ، وأما بعض الروايات الواردة حول صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان عشرين ركعة في غير جماعة ثم الوتر ، كما رواه البيهقي عن أبي شيبة العبسي الكوفي قاضي واسط وقد ضعفه البيهقي بنفسه في سننه الكبرى (ج 2 ، ص 496) وسائر علماء الحديث وقد صرح الإمام مالك رضي الله عنه إن هذه الرواية تعارض الحديث الصحيح المروى عن عائشة رضي الله عنها مع كونها أعلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم ليلا من غيرها (شرح المؤطأ ج 1 ، ص 246) .
وقد نشأت عادة الإكثار في عدد ركعات صلاة قيام رمضان أو صلاة التراويح بعد زمان الخلفاء الراشدين ، على أساس فكرتين مستحدثتين تحيدان بالتدريج عن الاتباع الدقيق لخط السنة النبوية نصا وروحا وفعلا وشكلا ، وهاتان الفكرتان واضحتان من استدلال القائلين أو المؤيدين لتعدد عدد ركعات التراويح من عشرين وثلاثين وأربعين وغيرها حسب روايات عديدة في كتب المذاهب الفقهية والفكرة الثانية : إن التراويح من النوافل من شاء أقل ومن شاء أكثر فالذين اختاروا تطويل القيام بالقراءة اختصروا عدد الركعات والذين اختاروا تقصير القيام والقراءة أكثروا عدد الركعات .
ومن أهم حجج القائلين بعشرين ركعة أن الرواتب المؤكدة في غير رمضان عشر ركعات فضوعفت في رمضان لأنه وقت جد وتشمير في العبادات والطاعات (انظر فتح المبين في المذاهب الشافعي للشيخ زين الدين بن عبد العزيز المليباري باب صلاة النفل) .
وإذا تجاوزنا بالتحديد الثابت في فعل النبي صلى الله عليه وسلم بثماني ركعات في ثلاث ليالي من رمضان في جوف الليل في المسجد إلى تسويغ إكثار عدد الركعات في صلاة التراويح بحجة أو أخرى فلا ينبغي لنا التمسك أو التزمت بعشرين ركعة فقط لأنه روايات العلماء والمذاهب مختلفة في العدد حسب الاجتهاد القائم على اعتبارات واتجاهات عديدة ، وتتراوح إعداد الركعات في صلاة التراويح كما جرى العمل بها في العصور المتأخرة وفي المدن الإسلامية المختلفة فيما بين إحدى عشرة ركعة إلى تسع وأربعين ركعة ، واكتفى هنا بنقل عبارة مختصرة بهذا الشأن من كتاب عمدة القاري للإمام العيني فيقول :”وقد اختلف العلماء في العدد المستحب في قيام رمضان على أقوال كثيرة فقيل إحدى وأربعون ، وقال الترمذي رأى بعضهم أن يصلي إحدى وأربعين ركعة مع الوتر ، وقيل ثمان وثلاثون ، رواه محمد بن نصر ، وقيل ستة وثلاثون ، وقيل أربعة وثلاثون ، وقيل أربع وعشرون ، قال الأعمش كان يصلي عشرين ركعة ويوتر بثلاث ، وقيل ستة عشرة وهو مروى عن ابن مجاز ، وقيل ثلاث عشر واختاره محمد بن إسحق ، وقيل إحدى عشرة ركعة وهو اختيار مالك لنفسه واختاره أبو بكر بن العربي” (عمدة القاري ج 5 ، ص 356) .
ويقول الإمام الجوزي :”إن عدد الركعات في شهر رمضان لا حد له عند الشافعي لأنه نافلة” (الحاوي للفتاوى ج 1 ، ص 350) ، وأما الإمام السبكي من أئمة المذاهب الشافعي فيقول :”ألا إن هذا الأمر يسهل الخلاف فيه فإن ذلك من النوافل من شاء أقل ومن شاء أكثر ولعلهم في وقت اختاروا تطويل القيام على عدد الركعات فجعلوها إحدى عشرة وفي وقت اختاروا عدد الركعات فجعلوها عشرين”(الحاوي للفتاوى ج 1 ، ص 250) .
نظرات في ثلاثة مستحدثات
إذا نظرنا بعين التحقيق والإنصاف وبهدوء وإمعان متجردين عن كل شوائب التمذهب والتحزب وبعيدين كل البعد عن قوالب التحيز والتعصب الشخصي أو الجماعي أو الفكري أو الطائفي ، نرى أن إقامة صلاة باسم التراويح في أول الليل ثم أخرى في منتصف الليل باسم قيام الليل وأحيانا ثالثة في جوف الليل أي آخره بعد النوم للذين يصلون التهجد الذي هو التنفل ليلا بعد النوم ، لم يثبت لهذا التعدد دليل شرعي من الكتاب أو السنة النبوية أو سنة الخلفاء الراشدين قولا أو فعلا أو تقريرا .
فإذا قال قائل إن صلاة التراويح هو قيام رمضان فما التي تقام بعد التراويح في منتصف الليل باسم قيام الليل ؟ فإذا كان المراد منها قيام الليل الذي صلاه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث ليالي من رمضان في مسجده بالجماعة فيجب أن يقام لسنته الفعلية أيضا وبدون أن تقام صلاة أخرى في أول الليل باسم صلاة التراويح أو قيام رمضان أو غيره ، ولم يثبت مصل هذا التنوع في الصلوات النافلة في ليالي رمضان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ، أفليس هذا التنوع فعلا مستحدثا في الأمور الدينية ؟ .
والاستحداث الثاني في تسمية عبادة ورد اسمها وفضلها وكيفيتها في السنة النبوية قولا وفعلا ، باسم جديد قد شاع بسبب بعض الملابسات العارضة التي لا تمت بروحها أو حكمة تشريعها أو شروط أدائها بصلة من قريب أو بعيد ، ثم إثبات ذلك الاسم على تلك العبادة وتعميمه في كل الاستخدامات المتعلقة بها ، وهذا هو موقف اسم التراويح لصلاة قيام رمضان أو قيام الليل التي سنها النبي صلى الله عليه وسلم وسماها وتعارفت بهذه التسمية فقط في عهده صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين .
أليس استبدال اسم قيام رمضان أو قيام الليل باسم التراويح أمرا مستحدثا في حق أسماء العبادات المنصوص عليها في السنة الثابتة ؟ .
وأما الاستحداث الثالث فهو القول بأن قيام الليل الذي يقام بعد صلاة التراويح إنما هو امتداد لصلاة واحدة وهي قيام رمضان المطلق فليس هناك تنوع أو تعدد في الصلاة المسنونة في ليالي رمضان أو خروج عن خط الاتباع الدقيق ، فينشأ حينئذ أكثر من تساؤلات وشبهات ومنها : فإذا كانت صلاة التراويح وصلاة قيام الليل التي تقام بعدها امتداد لصلاة واحدة واردة الحديث النبوي فلماذا التفريق بينهما بالاسم أي التراويح للمرحلة الأولى منها وقيام الليل للمرحلة الأخيرة ؟ وكيف تكون النية في كل منها أي باسم التراويح للأولى وقيام الليل الثانية أو الجمع بينهما في كل منها ؟ وإن أقيمت هاتان الصلاتان التراويح وقيام الليل بعد العشاء وقبل النوم واشترك فيهما أناس يواظبون على صلاة التهجد أفليس عليهم أن يصلوا في نفس الليلة صلاة ثالثة نافلة باسم التهجد بعد النوم لأن وقته لا يدخل إلا بعد النوم ليلا .
وقصارى أملي أن يكون هذا البحث السريع الوجيز مدخلا إلى حوار صريح ودي بين علمائنا وفقهائنا ودعاتنا بقلوب مفتوحة وعاطفة هادئة ونية صادقة ، بغية الوصول إلى نتائج طيبة وحلول مرضية تقنع أذهاننا وتقر عيوننا وتجمع بين جماعات وطوائف الأمة الإسلامية كلها بقدر المستطاع ، ولا ينبغي أن نترك مثل هذه القضايا الجزئية او النفلية التي لا تصل إلى درجة الأصول الرئيسية أو القواعد الأساسية للشريعة في العقيدة أو العبادات أو المعاملات من حيث قوة الأدلة الشرعية من الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة ، مجالا لاشتغال المناقشات الحادة أو المنازعات أو المناقشات الجارحة بين المسلمين وخاصة في هذه المرحلة الخطيرة التي يمر بها العالم الإسلامي من جراء الجهات المغرضة المتربصة لتفريق شمله وتشتيت أوصاله وتبديد طاقاته ، فمن حق الأمة الإسلامية على علمائها ودعاتها ومصلحيها أن لا يتبادر منهم قول أو جدل أو تحرير أو تقرير يؤدي إلى بلبلة فكرية في أذهانها أو إلى شرخة عاطفية في آرائها أو إلى هزة وضعية في قاعدتها الأخوية تحت راية “إنما المؤمنون إخوة” والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سبيل الرشاد .