الخليج اليوم – قضايا إسلامية – الأحد 6-أبريل-1986 م
يحتفل المسلمون اليوم في مشارق الأرض ومغاربها بذكرى الإسراء والمعراج ، وقد جرى هذا الحدث العظيم في تاريخ الكون في السابع والعشرين من شهر رجب المعظم حيث أسرى رسول الثقلين وخاتم الأنبياء وأشرف الخلق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى ومنه عرج إلى السماوات العلى وإلى سدرة المنتهى إذ رأى من آيات ربه الكبرى ، ولا ينبغي للمسلمين خاصة وللمجتمع البشري عامة أن تمر هذه المناسبة وذكرى هذا الحدث العظيم بدون وقفة تأمل واعتبار واستذكار لدروسه وملابساته وعظاته وعبره لأنه لا يخفى على من له عقل سليم ووعي صحيح مالذكر الإسراء والمعراج من أهمية خطيرة وعجيبة في تاريخ الكون وفطرة الخلق وناموس الطبيعة ، ودعنا الآن نلقي ضوء على بعض الجوانب لهذه الذكرى العظيمة الخالدة .
شبهات حول طبيعة الإسراء والمعراج
لقد شاع بعض الشبهات لدى نفر من قصار النظر أو ضعاف الإيمان أو عديمي الإدراك والتعمق في دقائق الأشياء وحقائق الأمور ، حول طبيعة حادثة الإسراء والمعراج فهل كانت روحية بحتة أو روحية وجسدية ؟
وتدل جميع الشواهد والبراهين العقلية والنقلية ، وكذلك المنطق السليم ، على أن الإسراء والمعراج كان مع الجسد والروح معا لشخص النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن هذه الأدلة القاطعة الساطعة على كون رحلات الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المسجد الأقصى ومنه مع رفقة جبريل عليه السلام إلى السماوات العلى حتى سدرة المنتهى ، بجسده وروحه معا .
أولا : إن الله سبحانه وتعالى يقول بكل وضوح وجلاء إنه هو “الذي أسرى بعبده” لم يقل : “سرى عبده أو سرى محمد بنفسه ، والفرق بين التعبيرين أوضح من الشمس لكل ذي بصر وبصيرة فالفاعل في هذه العملية هو خالق الكون ونواميسه وطبائعه وما كان محمد إلا خاضعا ومطاعا لفعل الله تعالى وأوامره وقوانينه ، والعبرة هنا أن القوانين الطبيعية والنواميس الكونية قد وضعها خالقها لانتظام شؤون خلقه ولتطبيقها في شؤون الخلائق وهم الخاضعون لتلك النواميس وأما الباري تعالى فليس خاضعا لتلك النواميس وهو الذي يخلقها وهو خالق النواميس الطبيعية ومبدلها ومغيرها كما يشاء وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، فإن الرحلة من مكة إلى المسجد الأقصى والعودة منه إليها في جزء من الليل ، وكذلك الصعود إلى السماء مع خرق النظام الكوني الموضوع لطبيعة البشر ، وكل هذا ما حدث بإرادة محمد وفعله كبشر يخضع للنواميس الطبيعية ، بل حدث بفعل خالق تلك النواميس وهو ليس بخاضع لها فلا ينشأ هناك التساؤل عن المسافات الزمانية والمكانية المرتبطة بنظام المخلوقات ، وعن نظام الجاذبية والصعود والهبوط وغيره ، وبالتالي لا ينشأ تساؤلات : كيف ذهب محمد وكيف عاد وكيف وكيف ..؟ فإنه لم يحدث شيئ من هذا بفعل محمد بنفسه ، ولم يخرق شيئا من قوانين طبيعته البشرية ولكنه حدث كل ذلك بفعل فاعل لا يخضع فعله لأي شيئ من هذه النواميس وتلك الطبائع الموضوعة للبشر ، وما سرى محمد ليلا ولكنه أسرى به وما عرج بنفسه ولكنه عرج به ، فليس هناك أي استغراب واستعباد لكون رحلة الإسراء والمعراج روحا وجسدا معا .
وثانيا : إن لفظ “عبده” الوارد في مضى الآية يدل على كون رحلة محمد صلى الله عليه وسلم بروحه وجسده معا لأن لفظ “عبد” لا يطلق على روح شخص فقط دون جسده ولم يعرف مثل هذا الاستعمال في لغة على الإطلاق ، ويمكن أن يقال العكس أي إطلاق اسم على جسد الشخص فقط بدون مراد الروح كما يقال : فلان طويل أو ضعيف ، ولكن إذا كان المراد روحه فقط دون جسده فلا يقال إلا بإضافة كلمة روح فمثلا : روح فلان ، وأما الإطلاق فيدل على الروح والجسد معا .
وثالثا : لقد جعل الله سبحانه وتعالى هذا الحدث من المعجزات الكبرى لعبده ورسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم تثبيتا لفؤاده هو وأفئدة صحابه الكرام في أحرج الظروف التي كانت تمر بها الدعوة الإسلامية ، وتكبيتا لمكابرات المشركين وتثبيتا لهممهم ، وإذا كانت حادثة الإسراء والمعراج ، مجرد حدث روحي وحادثة رؤيا في المنام ، فما هو وجه الإعجاز فيه ؟ وما هي وجه الغرابة ؟ وإن الناس عادة يرون في المنام أكثر وأعجب من مثل هذا ! وما هو سبب إنكار المشركين لهذا الخبر ؟ ولماذا أقاموا الدنيا وأقعدوها استغرابا واستهزاء عندما سمعوا ذلك الحدث الذي يمكن أن يحدث مثل هذا بل أكبر منه لأي شخص عادي ؟ ولماذا بادر أبو بكر الصديق رضي الله عنه تصديقه كأنه حدث عظيم معجز ؟ واستفسر وتبين من القوافل عما أخبره الرسول بما رآه في الطريق بين مكة والقدس على مسافة عشرات الأميال ؟ .
فلنفهم هذه النصوص القرآنية
وكفى لكل دارس وباحث ومفكر ، يريد مزيدا من التبيان والاستيعاب لمختلف الجوانب الدقيقة العظيمة المعجزة لحادثة الإسراء والمعراج أن يفهم ويمعن النظر في الآيات المتعلقة بمرحلة الإسراء من مكة إلى المسجد في سورة “الإسراء” والآيات المتعلقة بمرحلة المعراج من تلك تلمرحلة في سورة النجم :
“سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا أنه هو السميع البصير ” (الإسراء) .