في رحاب رمضان المبارك
دعاء الصائم مستجاب .. كيفية الدعاء وصفات الداعي
الخليج اليوم – قضايا إسلامية الأربعاء 28-مايو-1986 م
إن من أهم الأمور التي يجب الانتباه إليها ذلك الربط الوثيق بين آية الصيام في رمضان وآية الدعاء أي آية رقم 185 وآية رقم 186 سورة البقرة ، فبعد أن طلب رب العزة والجلال من عباده صيام شهر رمضان بقوله :”شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس ، وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ، ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون” (البقرة : 185) ، عقب هذه الآية الكريمة البليغة المعجزة :”وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون” (البقرة : 186) .
حكمة الربط بين الصوم والدعاء
لقد عرفنا نم الأحاديث السابقة العديدة عن حكمة وأسرار تشريع الصيام في شهر رمضان كما كان مشروعا في جميع الملل والشرائع السابقة دوره الفعال الإيجابي في تهذيب النفوس وكبح جماح الشهوات والنزوات النفسية حتى يكون معمل التقوى ومصدر الصلاح ومنبع الأخلاق الفاضلة ومنشأ الأخوة الاجتماعية والمودة الإنسانية فصارت ثمرته اليانعة التي يقطفها صاحبه “التقوى” بمعناه الأوسع والأكمل كما قال تعالى :”لعلكم تتقون” .
وسئل الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن التقوى ، التي هي ثمرة الصيام ، كما أشار إليه القرآن فقال : “إنما هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل “.
فلما سئل الإمام الغزالي رضي الله عنه عن التقوى فقال :”التقوى كنز عظيم فإن ظفرت به فكم تجد فيه من جوهر ، ورزق كريم ، وملك عظيم لأن خيرات الدنيا والآخرة جمعت فيها ” .
ووردت فوائد عديدة ى تحصى للتقوى صرح بها القرآن الكريم والأحاديث النبوية وآثار السلف الصالح منها : النجاة من الشدائد وتيسير الرزق من حيث لا يحتسب الإنسان فيقول الله عز وجل :”ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب” (الطلاق) ومنها :قبول العمل فيقول تعالى :”إنما يتقبل الله من المتقين” (المائدة : 27) ، ومنها :نيل محبة الله تعالى :”إن الله يحب المتقين” (التوبة : 7) .
وكذلك البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة فيقول رب العالمين :”الذين آمنوا وكانوا يتقون ، لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ” (يونس : 63) ومن أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في فضل التقوى :”من اتقى الله وفاه كل شيء ” وكان صلى الله عليه وسلم يدعو دائما :”اللهم أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى” (رواه مسلم) ، وهكذا كان دعاء إمام المتقين وسيد المرسلين ليدوم له عون الله عز وجل على التقوى وتوفيقه لها .
وبما أن التقوى ثمرة الصيام الأولى وبفضل الصيام يكون المؤمن أقرب إلى خالقه ورازقه لأن الصيام لا يطلع على حقيقته إلا المولى تبارك وتعالى ومتى لاحظ الصائم المؤمن قرب ربه عز وجل أخذه الخجل والحياء من انتهاك حرمته وابتعد عن عصيانه ومخالفة أوامره فكان ذلك مقام التوجه إليه بالدعاء والتضرع والخشوع ، وأما الدعاء في حقيقته فما هو إلا مظهر من مظاهر العبادة الحقة لأنه اعتراف من العبد لله عز وجل بالربوبية الكاملة وبقدرته التامة وأنه على كل شيء قدير ، الدعاء أصدق مظهر من مظاهر الإيمان والإخلاص ، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم :”الدعاء هو العبادة” ثم قرأ قوله تعالى :”وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادي سيدخلون جهنم داخلين” (غافر : 60) (رواه أبو داود وغيره) .
كيفية الدعاء
لقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع بعض المسلمين يدعون الله تعالى بصوت مرتفع فقال لهم :”أيها الناس ، اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم” (روه البخاري) وإنما تدل الآيات المذكورة وكذلك عدة أحاديث نبوية على أنه لا ينبغي رفع الصوت في الدعاء وفي سائر العبادات إلا بالمقدار الذي حدده الشرع في الصلاة الجهرية وهو أن يسمعه من هو بالقرب منه فمن تعمد المبالغة في رفع الأصوات حين الدعاء أو القراءة في الصلوات كان مخالفا لأمر الله عز وجل ولإرشادات رسوله الكريم : فقال تعالى :”ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا” (الإسراء : 110) .
ويجب أن يكون الدعاء بصوت خافت وبخشوع وضراعة وحضور قلب وخشوع الجوارح كلها لأنه يدعو ويخاطب ربا هو أقرب إليه من حبل الوريد ويعلم ما توسوس به نفسه ، فقال عز وجل هاديا ومرشدا :”ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس نفسه ، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد” (ق : 16) ،وأقرب ما يكون العرب إلى ربه في الصيام الخالص الذي هو السر بين الصائم وربه ، وبما أن قربه تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار والله تعالى منزه عن القرب المكاني وعن كل صورة وطريقة وكيفية يتصوره العباد فليس كمثله شيء ، ولم يكن له كفؤا أحد وحسبنا قوله : “وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع ” وقوله :”ونحن أقرب إليه من حبل الوريد” وقوله :”ألا يعمل من خلق وهو اللطيف الخبير” .
من صفات اللازمة للداعي
إن الداعي يجب أن تتحقق فيه صفات الداعي المؤمن المخلص ومنها : حضور الذهن وخشوع القلب ووقار الجوارح ، ومراقبة الله تعالى في الأعمال والأقوال ، والابتعاد عن أكل الحرام والشبهات ، ويجب أيضا أن يتخذ الأسباب الظاهرية بمعنى أنه لا يتكل أو بتواكل على الدعاء بدون أحد الأسباب المطلوبة وأن الله سبحانه وتعالى أمره باتخاذ الأسباب في كل ما يتمناه ويرجوه فبفضل الدعاء قد يعينه على ما غاب عنه من الأسباب وعلى ما لا يندرج تحت القدرات البشرية فالدعاء منا والاستجابة منه وهو أدري واعلم بمصلحة العباد الآجلة والعاجلة ن وينبغي أن نفهم جيدا فحوى قوله عز وجل :”ادعوني أستجب لكم” فالدعوة منسوبة إلى العباد والاستجابة مسوبة إلى الخالق تعالى بصيغة المضارع التي تصلح للحاضر والمستقبل ، وللعاجل والآجل لأنه هو الذي يقرر زمان ومكان وكيفية الاستجابة بواسع علمه وعظيم حكمته وكريم فضله على عباده .
الأوقات المستجابة للدعاء
ذكر بعض العلماء الفضلاء أن في ذكره تبارك وتعالى الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام عقب بيان فضل شهر رمضان المبارك ، إرشاد منه إلى الاجتهاد في الدعاء في رمضان وتذكير بالاستجابة فيه فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مبينا هذه اللفتة الإلهية :”إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد” (رواه البيهقي)كما جاء في حديث قدسي رواه البخاري “يا ابن آدم ، واحده لك وواحده لي ، وواحدة بيني وبينك فأما لتي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا وأما التي لك فما عملت من شيء أو من عمل فيتكه ن وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلي الإجابة ” (البخاري) ، ومن أفضل الأوقات للدعاء : جوف الليل ، وعقب كل صلاة من الصلوات المكتوبة ، وبين الآذان والإقامة ، وعند السحر في الثلث الأخير من الليل وهو الوقت الذي تنام فيه العيون وتغار فيه النجوم وعباد الرحمن “تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا” .