وقفة ونظرة :
دور المناهج التعليمية المدسوسة في انحطاط العالم العربي والإسلامي
الشرق 5-نوفمبر-1987م
على الرغم من هجمات الجيوش الصليبية المتكررة على العالم العربي الإسلامي ومن الخسائر التي تكبدتها الجيوش الإسلامية في صد العدوان وطرد المعتدين ، كان المسلمون يحسون دائما أنها هزيمة مؤقتة ، بسبب كثرة الجيوش الغازية أو مفاجاتها للمسلمين على غرة أو بعدم تهيئة المسلمين لمواجهة التحدي وعدم اتحاد صفوفهم في وجه العدو الغاصب ، ثم يهب المسلمون وتتدفق جيوشهم بروح الجهاد المقدس دفاعا عن العقيدة والشرف والحق المغتصب بقوة المادة والسلاح فيأتي نصر الله كسابق وعده للمؤمنين ، وكان تكرار النصر بعد كل هزيمة مؤقتة يؤكد هذا المعنى في نفوسهم ويرسخ في شعورهم الاستعلاء بالإيمان “ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين” صدق الله العظيم .
وأوضح مثال على هذه الحقيقة تلك الهزيمة الحربية النكراء التي أوقعها نابليون بجيوش المماليك بالقاهرة وضرب الأزهر والعبث بخيوله في ساحة الأزهر الشريف ، ولقد صدمت هذه الهزيمة نفوس المسلمين وزلزلوا زلزالا شديدا ثم في النهاية ثار الشعب المسلم على الحملة الفرنسية واضطرت للرحيل ، ومن ثم كان المسلمون يحافظون دائما على استعلائهم حتى في فترة الهزيمة المحدقة بهم فما كان يخالجهم الشك في أنهم الأعلون وأنهم في النهاية هم المنتصرون ، وكذلك ظلت العقيدة الإسلامية مستعلية في نفوسهم.
وأدرك الأعداء من الصليبيين وغيرهم بثاقب فكرهم وبطول ممارستهم مع الجيوش المسلمة أن العقيدة الإسلامية الراسخة في نفوس المسلمين هي التي تغير الميزان في داخل النفوس وهي التي تجعلها قابلة للصمود للهزيمة وهي التي تمنحها القوة الكافية للصمود أمام الصدمة والنهوض من جديد ، ورأى الصليبيون بأم أعينهم مدى التأثير الروحي حينما ثار الشعب المصري المسلم بزعامة رجال الدين ضد الحملة الفرنسية فحدثت مقاومة باسلة وبطولات رائعة .
وقال الاستعمار الصليبي الذي أدرك حق الإدراك مدى قوة هذه العقيدة ومدى مقاومتها للأحداث رغم كل ما أصابها من هزات مدمرة على مدار التاريخ ، بمحاولات مضنية لتقويض الإسلام من الداخل – من مكمن العقيدة الراسخة في داخل النفوس – في أناة وتدبر وكيد منظم مدروس ، ولحكمة يعلمها الله تعالى خالق البشر والقوى ، نجح الاستعمار الصليبي بفضل سياستهم المتبعة “فرق تسد” في تفتيت العالم الإسلامي إلى دويلات صغيرة يشرف عليها النفوذ الغربي ويتبنى حركة الإصلاح المزعوم الهادف إلى هدم القومات الإسلامية وإبعاد المسلمين عن العقيدة الصحيحة ونشر البدع والخرافات والخزعبلات في أفكارهم باسم الإسلام ، ثم زادت الدعاية المتكررة المتنوعة بأن النفوذ الغربي معناه الإصلاح ونشر الحضارة والثقافة والتعليم حتى قامت مدرسة فكرية إصلاحية غربية في ظاهرها وهدامة وصليبية في باطنها .
السياسة المرسومة
وفي هذه الفترة بدأ الغزو الفكري الصليبي بأيدي الفرنسيين والإطاليين والبرتغاليين وأعوانهم في سوريا ولبنان والبلدان الإسلامية في الشمال الأفريقي وبأيدي الانجليز وأعوانهم في مصر وبقية العالم العربي والإسلامي في الشرق ، وفي تلك الفترة وضعت السياسة المرسومة المنظمة للقضاء على العقيدة الإسلامية أو زعزعتها في نفوس المسلمين ، وكانوا يعرفون جيدا أن هذه العقيدة الإسلامية أو زعزعتها في نفوس المسلمين ، وكانوا يعرفون جيدا أن هذه العقيدة من الرسوخ والقوة وعمق الجذور بحيث تحتاج إلى جهود مضنية لاقتلاعها من جذورها أو لتوهين عراها في النفوس ، ولا يتحقق هذا الهدف المنشود إلا بتربية جيل لا يعرف من الإسلام إلا اسمه ، وسلخه من مفهومه الصحيح الشامل لجميع مرافق الحياة البشرية .
وفي ضوء وقائع التاريخ المدعمة بأقوال المستشرقين المبشرين وأذنابهم الذين وضعوا سياسة التعليم في العصر الحديث ، في مدارس وجامعات العالم العربي الإسلامي نستطيع أن نقول إن مناهج تلك السياسة قد رسمت على الأسس الآتية .
(1) التفريق في مناهج المدارس الحكومية والمدارس التبشيرية لأضعاف روح الدين .
(2) التمييز بين المواد الأخرى لسلخ الإسلام من شؤون المجتمع شؤون الحياة .
(3) التمييز بين اللغة العربية واللغات الأوروبية بحيث يتم ازدراء اللغة العربية واستعلاء اللغات الأخرى
وبيان كالآتي :
ففي فترة التدهور السياسي في العالم العربي والإسلامي وتفرقه إلى دويلات ونجاح الاستعمار الصليبي ، ووراءه الكيد الصهيوني في توهين عرى العقيدة الصحيحة في نفوس العرب والمسلمين ، وتولي مقاليد الحكم والاقتصاد والإدارة والتعليم في العالم الإسلامي كله أو جله بطريقة أو أخرى ، كان الأزهر بمصر يؤدي دوره كمصدر للعلوم الإسلامية والعربية ويؤمه طلاب النور والعرفان من كل بقعة يسكن فيها المسلمون ، وعلى الرغم من بعض الجمود والتخلف الذي تفشي في نظامه التعليمي قد ظل حصنا لتعليم الإسلام ، وكانت المحاولات تبذل باستمرار بأيدي العلماء المصلحين لإصلاح مناهجه ونظم تعليمه ، وكان هم الاستعمار الصليبي القضاء على الأزهر ومكانته التعليمية أولا لأنه مازال معقلا للعقيدة الإسلامية ومصدرا للوحدة الفكرية والروحية للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها .
وفي سنة 1882م وقف المستر “جلاد ستون” رئيس وزراء بريطانيا في مجلس العموم البريطاني يمسك بيده نسخة من المصحف الشريف ويقول لأعضاء المجلس :”إنه مادام هذا الكتاب باقيا في أيدي المصريين فلن يستقر لنا فرار في تلك البلاد” (انظر كتاب : هل نحن مسلمون : تأليف محمد قطب) .
وقد أدرك تماما أن القرآن الذي هو دستور الإسلام ولغته العربية هو صخرة المقاومة التي يرتطم بها الاستعمار الصليبي فيجب أن تتحطم تلك الصخرة ، وفي نفس الفترة جاء القسيس “دنلوب” المتخرج في كلية اللاهوت البريطانية إلى مصر ليرسم سياسة التعليم فيها ، ووضع “دنلوب” سياسته التعليمية المرسومة التي أتت في النهاية ثمارها المرجوة منها .
سياسة تقسيم المدارس
ورأى الاستعمار البريطاني أن مهاجمة العقيدة الإسلامية مهاجمة مباشرة تؤدي إلى عكس المطلوب منها إذ تنبه المسلمين للخطر ، فيجب اتباع الطريق الملتوية البطيئة الماكرة التي اشتهرت بها بريطانيا منذ القرون ، وقام “دنلوب” بفتح مدارس ابتدائية حكومية تدرس فيها العلوم المدنية واللغة الإنجليزية ، والذي يتعلم فيها يجيد اللغو الإنجليزية ويعرف العلوم العصرية ويضمن وظيفة حكومية ويقبض راتبا مغربا ، وانصرف الناس الموسرون أبناء رجال الدولة وأعيان البلد القادرون على دفع المصروفات وأبناء بعض الأمر الدينية المحافظة ، وكان يدير تلك المدارس الإندليز ، كما كان معظم المدرسين فيها من الإنجليز أو من خريجي المدارس الحكومية الإنجليزية في مصر أو في الخارج .
ومن الملاحظ المطلوب في هذا الصدد أن المناهج التعليمية التي كان يضعها الإنجليز بأنفسهم في هذه المدارس ، لتكون مختلفة – سواء في المواد المقررة أو في أسلوب تدريسها وإدارتها – عن مثيلاتها في مدارس بلادهم ، مع أنهم يعرفون أصول التربية الصحيحة ووسائل التعليم الحقة ، الأن أهداف السياسة التعليمية التي رسمها “دنلوب” وكان ينفذها النظار الإنجليز لتلك لمدارس لم تكن تخريج متعلمين حقيقيين قادرين على التفكير والابتكار والاختراع ، بل كانت تهدف إلى تحقيق أهداف خفية عديدة ومنها تخريج عدد من حاملي الشهادات الرسمية فيطيعون بما يؤمرون وينفذون ما يشار إليهم من السادة الحكام الإنجليز وكذلك تحويل الناس عن الأزهر ومعاهده وسائر المدارس الحكومية الإلهية ، وأخيرا الزرع في قلوب النشئ الجديد التوقير والتقديس بكل ما هو غربي والتحقير بكل ما هو شرقي !
فبينما كانت المناهج التعليمية في مدارس إنجلترا تربي تلاميذها على أن يطلعوا على الموضوع الواحد في مصادر مختلفة ليتربى فيهم حب الإطلاع من ناحية والقدرة على الابتكار والاختراع من ناحية أخرى ، ثم يمتحنون فيما استفادوه من دراساتهم لا فيما حفظوه عن ظهر قلب فقط ، كان يدرس المقرر في هذه المدارس في صورة واحدة من كتاب واحد لأن الصورة الواحدة المحدودة تحدد تفكير الدارس وتقتل فيه ملكة الابتكار ، لأن الابتكار ينشأ من رؤية الشيئ الواحد في صور متعددة ومن زوايا مختلفة فيتعود الزمن على التحرير والتبديل ، وينشأ عنه الابتكار والتطوير .
التزييف في المناهج
وكانت المقررات الجغرافية والتاريخية الموضوعة طبقا لتلك المناهج تتضمن دروسا تلقن التلاميذ أن مصر – مثلا – بلد زراعي لا يمكن ان تنشأ فيه الصناعة لأنه ليس فيه فحم ولا حديد وأن أوربا على وجه العموم وإنجلترا بصفة خاصة بلاد متقدمة لأنها بلاد صناعية ، لأن فيها الفحم والحديد ، فتنشأ في قلوب التلاميذ فكرة بأن بلادهم ستبقي تابعة يقبض المدرسون رواتب أقل مما يقبضها زملاؤهم الذين يقومون بالعمل معهم ف ينفس المدرسة ويأخذون جدولا مماثلا في الحصص أو أكثر ، من مدرسي اللغة الانجليزية أو التاريخ أو الجغرافي أو الرياضة وفي الحال تتميز الطبقات تميزا واضحا فطبقة موضع الاحترام لدى التلاميذ وفي المدرسة والمجتمع وتنال المكانة الاجتماعية والاقتصادية وتعيش حياة رغدة وأخرى تكون محل الازدراء لدى التلاميذ وفي المدرسة والمجتمع وتتواضع وتنطوي على نفسها وتنزل مكانتها الاجتماعية والاقتصادية .
وأما المقررات الدينية في تلك المدارس فتسير على النهج الذي يهدف إلى إخفاء حقيقة الإسلام وتشويه صورته الأصلية فلم تكن إلا نتفا متناثرة تضر أكثر مما تنفع ، فكل ما يدرس الطلاب عن الإسلام أنه مجموعة من العبادات التي يؤديها الإنسان ، ثم يدرسون مجموعة من الشبهات وقصص الغزوات والفتوح التي حدثت في تاريخ المسلمين ومن ثم قد فرغت مهمة الإسلام من الحياة ولم يبق له مهمة يؤديها في واقع الحياة البشرية ، فلا يدرس شيئا عن الإسلام كنظام يحكم الحياة البشرية من جميع جوانبها ولا كحضارة امتدت في أقطار الأرض وأدوار الزمن أكثر من ألف عام ، وولا كحركة علمية أضاءت وامتدت في أقطار الأرض وأدوار الزمن أكثر من ألف عام ، ولا كحركة علمية أضاءت وجه الأرض كله واستقت منها أوروبا ذاتها لتكون نهضتها الحديثة ، ولا نظام اقتصادي قويم ولا حركة حررت ضمير الإنسان من جميع أنواع الخرافات والخزعبلات ، وهذه هي بعض الحقائق الرئيسية للإسلام الذي جاء كقوة كونية تهدي الناس إلى النور وتحقق لهم سعادتي الدارين .
وفي نفس الوقت تتضمن تلك المناهج مقررات عن تاريخ أوربا كأنها الحضارة والعلم والتقدم والعدالة الاجتماعية والحرية والمساواة بحيث تظهر أن التقدم ابتدعه الفكر الأوربي والحقوق الإنسانية وضعها النظام الأوربي ، وباختصار أن الغرب هو العملاق الذي لا يقهر والعالم العربي الإسلامي هو القزم الذي عله أن يقتدي الغرب ليتقدم وليتطور بل ليعيش في أمن وسلام .
ضربة موجهة ضد اللغة العربية
ونرى – حتى اليوم – آثار المناهج التعليمية المدسوسة وذلك الكيد الاستعماري الصليبي المحكم ، عاملة في جسم العالم العربي والإسلامي ، في أفكاره وسلوكه وعقائده وأخلاقه ، وقد أصابت هذه الضربة في واقع الأمر العقيدة الإسلامية واللغة العربية معا ، واستطاعت – إلى حد كبير – إلى تشويه المفهوم الإسلامي في النفوس وزرع المفهوم الأوربي – المسيحي في قلوب الناس ، وذلك نتيجة للجهود المستمرة التي يبذلها الاستعمار والتبشير الغربي منذ قرن من الزمان عن طريق فتح المدارس العلمانية والمعاهد اللغوية غير مرتبطة بمدارس الرهبان والراهبات والمدارس اليسوعية والارسالية وغيرها من ذوات الصبغة الدينية الصريحة وذلك لتوسيع نطاق عملية دس الأفكار الغربية والاستعمارية بعيدة عن الشبهة الدينية وكذلك عمل الرهبان المبشرين محدود ولا يفي بالغرض الواسع المدى .
وأرى من الأنسب هنا أن نقف وقفة قصيرة بل متأملة عند مقتطفات من أخطر كتاب يعرض نشاط التبشير في العالم العربي والإسلامي ووسائله وأهدافه ، ومن نص كلام واضع الخطوط الأساسية لسياسة الاستعمار الصليبي تجاه الإسلام والمسلمين ، عن طريق التربية والتعليم ، لزحزحة العقيدة الإسلامية من نفوس المتعلمين ، وأما الكتاب فهو الذي صدر مترجما من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية باسم :”الغارة على العالم الإسلامي سنة 1350 هـ ثم سنة 1381 هـ ، وقد ترجمه السيدان مساعد اليافي ومحب الدين الخطيب ، وأما المقتطفات التالية فمن مقدمته لمسيو أ. ل. شاتليه ويقول شاتليه في مقدمته في معرض الكلام عن موضوع السياسة التي ينبغي أن تتبع تجاه العالم العربي والإسلامي :-
“ينبغي لفرنسا أن يكون عملها في الشرق مبنيا قبل كل شيئ على قواعد التربية العقلية ليتسنى لها توسيع نطاق هذا العمل والتثبت من فائدته ، ويجدر بنا لتحقيق ذلك بالفعل أن لا نقتصر على المشروعات الخاصة التي يقوم بها الرهبان المبشرون وغيرهم ، فتبقي مجهوداتهم ضئيلة بالنسبة إلى الغرض لا يمكن الوصول إليه إلا بالتعليم الذي يكون تحت الجامعات الفرنساوية نظرا لما اختص به هذا التعليم من الوسائل العقلية والعملية المبنية على قوة الإرادة وأنا أرجو أن يخرج هذا التعليم إلى حيز الفعل ليبث في دين الإسلام التعاليم المستمدة من المدرسة الجامعة الفرنسية” (كتاب الغارة على العالم الإسلامي ص 7 طبع مكتبة أسامة بن زيد بيروت) .
ويقرر هذا الكلام أن التغيير الذي دخل على عقائد الإسلام ومبادئه الخلقية يرجع إلى نشاط التبشير الذي يحميه الاستعمار الصليبي ، أكثر مما يرجع إلى الحضارة الغربية نفسها ، ويقول رأس هذه الحركة التبشرية المزدوجة – الاستعمارية والصليبية والحضارية – المسيو “شاتليه” بكل صراحة ووضوح : أن هدف الاستعمار الصليبي من نشر اللغات الأوربية في البلاد العربية والإسلامية هو أولا قبل كل شيء هدم العقيدة الدينية وإضعاف الاعتقاد بالفكرة الإسلامية لأن هذا الضعف سيتبعه انحلال الروح الدينية واضمحلال الكيان الإسلامي :-
“ولا شك في أن ارساليات التبشير من بروتستانتية وكاثوليكية تعجز عن زحزحة العقيدة الإسلامية من نفوس منتحليها ، ولا يتم لها ذلك إلا ببث الأفكار التي تتسرب مع اللغات الأوربية ، فنشر اللغات الإنجليزية والألمانية والهولندية والفرنسية يحتك الإسلام بصحف أوربا وتتمهد السبل لتقدم إسلامي مادي وتقضي ارساليات التبشير لبناتها من هدم الفكرة الدينية الإسلامية التي لم تحفظ كيانها وقوتها إلا بعزلتها وانفرادها ، ثم يعترف شاتليه بكلام صريح لا يحتاج إلى تعليق بأن هدفهم الهدم وليس هو الإنشاء ، فيقول :”إذ الضعف التدريجي في الاعتقاد بالفكرة الإسلامية وما يتبع هذا الضعف من الانتقاص والاضمحلال الملازم له سوف يفضي بعد انتشاره في كل الجهات إلى انحلال الروح الدينية ن أساسها لا إلى نشأتها بشكل آخر ، واختتم “شاتليه” مقدمته قائلا : فإن نزع الاعتقادات الإسلامية ملازم دائما للمجهودات التي تبذل في سبيل التربية النصرانية ، والتقسيم السياسي الذي طرأ على الإسلام سيمهد السبل لأعمال المدنية الأوربية إذ من المحقق إن الإسلام يضمحل من الوجهة السياسية وسوف لا يمضي غير زمن قصير حتى يكون الإسلام في حكم مدنية محاطة بالأسلاك الأوربية ” (نفس المصدر ص 10) .
وقفة تعقل ونظرة تفهم
وهنا ينبغي لنا أن نقف لحظة تفهم وتعقل لئلا نقع في فخ الأعداء المكرين من باب آخر ، فإننا رأينا أن الاستعمار الصليبي يستخدم المناهج التعليمية الخاصة بتعليم اللغات الأوربية لإضعاف العقيدة الإسلامية ، وفي الوقت نفسه فإن هذه اللغات هي الوسيلة الكبرى لأنواع من المعارف وكذلك الاتصال الدولي في عصرنا الحاضر ، وأن السبيل الحكيم للتوفيق بين الطرفين المتباعدين هو تعلمها بوعي وإرادة على النحو الذي يريده لنا الاستعمار ، ولنا مثل أعلى في هذا المضمار فإن المسلمين الأوائل تعلموا كثيرا من اللغات العالمية كاليونانية والفارسية والهندية وغيرها من لغات العلوم والمعارف في تلك العصور دون أن تتأثر بذلك عقيدتهم بل تعلموها لخدمة هذه العقيدة ومد نشاطها إلى سائر فروع المعرفة ، فقد أصبح المسلمون – بفضل ذلك التعلم الواعي – علماء العلم في شتى فروع المعرفة الإنسانية مع بقائهم مسلمين حقيقيين ، ومن ناحية أخرى أن المسلمين نشروا اللغة العربية في البلاد التي اتصلوا بها بوسائل صريحة ومستقيمة كما نشروا فيها الإسلام والحضارة الإنسانية القائمة على الأخلاق النبيلة والعلم والمعرفة ، ويشهد التاريخ باعتراف الأصدقاء والأعداء على حد سواء ، أن المسلمين لم يستخدموا أية وسيلة ملتوية أو أي تحايل أو ضغط أو إكراه لسلخ الناس عن عقائدهم وأفكارهم فالذين اعتنقوا الإسلام إنما فعلوا ذلك عن اختيار وإرادة حرة ، وقد خلط كثير من الكتاب الغربيين والمستشرقين – عمدا أو جهلا – بين الغزو المسلح الذي قام به المسلمون لفتح بعض البلاد وبين نشر العقيدة الإسلامية بالقوة ، والدليل على بطلان هذه الدعوى الظالمة أن المسلمين قد تركوا الناس في تلك البلاد بعد فتحها أحرارا حرية كاملة في أن يعتنقوا العقيدة التي يريدونها بلا ضغط ولا إكراه فظلوا يهودا أو مسيحيين أو غيرهم إذا شاؤوا بحماية دولة المسلمين ورعايتهم أو دخلوا في الدين الإسلامي بمحض إرادتهم واختيارهم ، وقد شهد بذلك الأعداء قبل الأصدقاء ، وهذا موضوع آخر وله مقام آخر …