ذكرى غزوة أحد الكبرى في شهر شوال من كل عام
دروس استراتيجية للمسلمين اليوم في معركتهم المصيرية
الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 18-يونيو-1987
لقد تعود العالم الإسلامي ، منذ عصور قليلة ماضية يمر بذكريات غالية ومناسبات قيمة حول شتى مجلات الحياة البشرية وخاصة في تاريخ الأمة الإسلامية ، مرور الكرام أو مرور اللامبالات وعدم الاعتناء بدروسها الهامة ونتائج حوادث تلك الذكريات العامة التي يعم نفعها ويخص ذكرها لأمة الإسلام في كل زمان ومكان ، لأن في الذكرى عبرة وعظة لأولي الألباب وأن التاريخ بمثابة نبراس يضيء الطريق أمام الأمم والشعوب ومنهج قويم ، وفي مقدمة تلك الذكريات التي تمر بالمسلمين في هذا الشهر بالذات “شهر شوال” ذكرى غزوة أحد الكبرى المليئة بدروس استراتيجية حربية من سلبيات وإيجابيات يستفيد منها العالم العربي والإسلامي في مواجهة التحديات العصرية اليوم .
بواعث غزوة أحد
بعد أن منيت قريش بنكسة كبرى مصيرية بعد هزيمتها النكراء في غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة النبوية ، كانت دموع قريش تذرف على قتلاها في بدر وحميتها الجاهلية ، ومنذ اللحظة الأولى لهزيمتها وعودة البقية الباقية من قادتها إلى مكة بدأت قيادة قريش استعدادها وتفكيرها وتخطيطها للثأر من المسلمين في المدينة المنورة ، عاصمة دولتهم ومقر قيادتهم ومركز دعوتهم ، وجدير بالذكر بكل دهشة واستغراب لدى كل عقل سليم ومنطق حكيم ، أن أبا سفيان بن حرب ، حين رجع إلى مكة من بدر ، قد نذر بعدم غسل رأسه بالماء حتى يغزو محمدا صلى الله عليه وسلم وينتقم منه ويأثر عن هزيمة بدر ! وكانت دموع قريش لم تجف على قتلاها في ساحة بدر ، وقد ضاعفت استعدادها وأحكمت إعدادها لغزو المدينة والإغارة عليها .
وفي شهر ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة أي في نفس عام بدر الكبرى ، خرج أبو سفيان ونفر من قريش لغزو المدينة خفية ، حتى وصلوا إلى مساكن قبيلة يهود بني النضير تحت ظلام الليل ونزلوا لدى سادة اليهود فعرف منهم أبو سفيان أخبار المسلمين وأسرارهم ثم أغار هو ورجاله على قرية بقرب المدينة ، كانت تسمى “العريض” وحرقوا بعض منازلها وقتلوا رجلين من الأنصار ثم انصرفوا راجعين إلى مكة حتى لا يلحق بهم المسلمون وتمكنوا من النجاة ، ثم أحكم المسلمون خططهم لمنع قريش من الإغارة على المدينة وإحكام الحصار الاقتصادي على قوافل تجارة قريش من مكة إلى الشام والعراق لأن هذا الازدهار الاقتصادي موجه للقضاء على المسلمين ومستهدف لتسليح جيوش قريش لغزو المدينة ، وأن الدوافع الكامنة وراء هذه التجارة وتلك القوافل إنما هي الإعداد للقضاء على أمة الإسلام فكان لزاما على المسلمين ، أن يتخذوا كل الاحتياطات اللازمة للمحافظة على كيانهم وردع الأعداء المتربصين عن عدوانهم ، وقد خرج جيش قريش فعلا لغزو المدينة في شهر ذي الحجة قبل أن تجف دماء قتلاهم في بدر وجرى الاتصال مع اليهود والمنافقين في المدينة وماحولها للغدر بالمسلمين .
اليوم الخامس من شهر شوال سنة 3 هجرية
كان اليوم الخامس من شهر شوال في السنة الثالثة من الهجرة نقطة تحول في تاريخ الأمة الإسلامية وبداية الفصل بين الحق والباطل وظهور دور استراتيجية حربية ودور السلبيات والإيجابيات في قواعد الانضباط في المعارك المصيرية ، وفي مثل هذا اليوم أي الخامس من شوال سنة 3 هجرية خرجت قريش بقيادة أبي سفيان من مكة ، وكان عدد الجنود الذين كانوا معه ثلاثة آلاف رجل بينهم مئتان من الفرسان وسبعمائة جندي مدرع وثلاثة آلاف بعبر ، وساروا من مكة إلى ناحية المدينة ونزلوا ببطن الوادي في سفح جبل أحد على بعد حوالي خمسة أميال من قلب المدينة المنورة .
وقد علم عباس بن عبد المطلب بهذا الخبر فأرسل رجلا برسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى تصل إليه قبل وصول قريش إلى ضواحي المدينة فأسرع الرجل ، ووصل إلى المدينة قبل وصول جيش قريش بوقت كاف ، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم بقباء على باب المسجد فدفع إليه الكتاب فقرأه عليه أبي بن كعب رضي الله عنه فطلب منه لئلا يعلق بمضمونه لأحد ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم أنسا ومؤنسا ابني فضالة يتعرفان أخبار قريش فوجداها قد قاربت حدود المدينة ، ثم وجد المسلمون طليعة خيل قريش على أبواب المدينة فأخذ كبار أهل المدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أسلحتهم وباتوا في المسجد النبوي لحراسة الرسول صلى الله عليه وسلم وبات سائر المسلمين يحرسون العاصمة طول الليل من أي هجوم مفاجئ عليها قبل أن يأخذ المسلمون عدتهم ويكتملوا أعدادهم .
بداية الاستراتيجية الحربية في المدينة
وكانت الخطوة الأولى في استراتيجية النبي صلى الله عليه وسلم في مواجهة غزو قريش في أحد أنه قد جمع أهل الرأي والخبرة في الصباح وتشاور معهم في الأمر ، فكان النبي صلة الله عليه وسلم يرى البقاء في المدينة للدفاع عنها فأبدى رأيه في هذا الأمر بقوله ، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام ، وإن هم دخلوها علينا قاتلناهم فيها ، ولكن المسلمين الذين فاتهم شرف القتال في بدر ، وبعض الصحابة من أبطال بدر الذين ذاقوا حلاوة النصر فيها ، تحمسوا ورأوا ضرورة الخروج لمقابلة قريش خشية أن ترميهم بالخوف أو الوهن في مواجهتها ووافق الرسول صلى الله عليه وسلم على رأيهم واجتمع معه من المسلمين ألف رجل وبينهم مائة من لابسي الدروع ، وقسم النبي صلى الله عليه وسلم جيشه إلى ثلاثة ألوية وهي :لواء الأوس بيد أسيد بن خضير ، ولواء الخزرج بيد الحباب بن المنذر ، ولواء المهاجرين بيد علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، ولما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى مقربة من منطقة أحد انخذل عنه رئيس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول ، الذي كان يتظاهر بالإسلام دائما ويشترك مع المسلمين في تأييد النبي صلى الله عليه وسلم حتى تحمس بنفسه في الاشتراك في جيش المسلمين لمحاربة قريش في أحد ، انخذل بثلاثمائة شخص من الناس الذين ساروا مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أحد فقال لهم :”ما ندري علام نقتل أنفسنا ، ههنا أيها الناس ” ومع هذ النقص المفاجئ واصل المسلمون التقدم إلى أحد ، حتى بلغوا جبل أحد ثم عسكروا في سفحه ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين ” لا يقاتلن أحد منكم حتى نأمره بالقتال” ثم نظر إلى قريش فوجد أنها قد جعلت على ميمنة خيلهم خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ، وبعد هذا التفقد والنظر بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم وتنظيم جيشه لمقابلة العدو بانضباط وانتظام فقال للزبير بن العوام لأن يقف بإزاء خالد بن الوليد ، وكذلك أمر جماعة من كبار قادة المسلمين ان يكونوا بإزاء خيل أخرى لجيش المشركين .
ولما نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أرض المعركة وإلى جبل واحد ، وجد في الجبل ممرا جعل المسلمين ظهرهم له فخشي أن يتسلل المشركون منه ، لأمر بجمع خمسين من مهرة الرماة وأقامهم على الممر المذكور ، وقال لهم : احموا لنا ظهورنا فإنا نخاف أن يجيئوا من ورائنا وألزموا مكانكم وإنا رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينوننا ولا تدافعوا عنا ، وإنما عليكم أن ترشقوا خيلهم بالنيل فإن الخيل لا تقدم على النبل ، وعين النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جبير قائدا لهؤلاء الرماة ، وإن في هذه الاستراتيجية الإرشادية دروسا عظيمة وخطيرة لسير المعارك البشرية في كل الغزوات والجولات قديما وحديثا .
اليوم الخامس عشر من شوال
وقد بدأت المعركة فعلا في الخامس عشر من شوال في السنة الثالثة للهجرة ، وصاح حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم صيحة القتال ، وأخذ المشركون يتساقطون صرعى في المرحلة الأولى لسير المعركة ، وأن طلحة بن عبد الدار كان يحمل لواء قريش وكانوا يعتبرون حمله شرفا والذود عنه غاية الشرف فقال : يا أصحاب محمد أزعمتهم ان الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار ، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة ، فهل أحد منكم يعجلني إلى النار بسييفه أو أعجله بسيفي إلى الجنة ، كذبتم واللات والعزى ، لو تعلمون ذلك حقا لخرج إلي بعضكم ، فخرج إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلقيه بسيفه فقتله ، وبذلك سقط حامل اللواء الأول ، ومنذ تلك اللحظة بدأت معركة مريرة حول هذا اللواء وكانت نتيجتها الموت المحقق لكل من حاول حمله فقد تقدم عشرة من قادة المشركين لحمله فقتلوا جميعا واشتد الحال بهم حتى اضطروا إلى التقهقر إلى الوراء ، وإلى الجلاء من معسكرهم والانسحاب من ساحة المعركة تاركين وراءهم ما يفوق الوصف من الغنائم .
وفي هذه المرحلة الفاصلة دخل القدر ولعب التاريخ الفطري للبشر دورا هاما وخطيرا حيث اغتنم المسلمون هذه الفرصة وحاولوا جمع الغنائم بأيديهم وحول ذلك المشهد ظنون أولئك الرماة الذين أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يبارحوا الممر المذكور بأي حال وتاقت نفوسهم إلى المشاركة في جمع الغنائم واهمين أن القتال قد انتهى وأن ليس هناك أي داع للاستمرار في حماية الممر ، وقالوا : إن الله قد هزم الأعداء وهؤلاء إخوانكم ينتهبون معسكرهم فادخلوا فيه معهم غانمين ، وهكذا لم يتبع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم نصا وروحا ، شكلا وموضوعا حرفيا إلا نفر قليل منهم فتركوا المكان المقرر لهم فوق الممر ، وهنا انتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة السانحة فاخترق بفرسانه الممر وأقصى الرماة القلائل الثبتين فيه ، على غفلة من المسلمين ، وصاح خالد بالجنود القرشيين المنسحبين بالتطور المفاجئ فعادت إليهم الشجاعة وروح الانتقام فانهالوا على المسلمين من كل الجهات والثغرات ، وأخذ الذعر وتأثير المباغتة .. نفوس القادة والجند .
أثر الشائعات والحرب النفسية
وفي هذه المرحلة المشئومة فقد لعبت حملة الشائعات دورا خطيرا في سير المعركة فصاح صائح من دهاة قريش بالناس خدعة ومكرا :”يا أيها الناس إن محمدا قد قتل” فازداد الأمر سوء وعظمت المصيبة وشاعت البلبلة الذهنية في أذهان المسلمين ، ولما سمع الأعداء هذه الشائعة أراد كل منهم أن يشترك في التمثيل به والانتقام منه ، وفي هذه اللحظات الخطيرة ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعركة ولم يتزعزع مثقال ذرة في هذه المحنة وما زال يرمي عن قوسه حتى صارت شظايا فأخذ يرمي الأعداء بالحجارة وهو أقرب الناس إليهم ، ففي هذه المحنة قد أصيب النبي صلى الله عليه وسلم عدة إصابات فكسرت رباعيته من أسنانه وجرح شقته السفلى وشج وجهه ، وما كان يبالي بما أصابه بل سار وحوله أصحابه المقربون الثابتون ، ووقع أثناء سيره في حفرة من الحفر التي حفرها أحد خبراء قريش ليقع فيها المسلمون فلحقه علي بن أبي طالب رضي الله عنه جتى أخرجه منها ، وقد أبلى المسلمون في هذه المحنة أعظم البلاء وأتى كل منهم أعظم الشجاعة وأفخر الهمم والبطولة والمصابرة ، وقتل في غزوة أحد ، واحد وسبعون من المسلمين واثنان وعشرون من المشركين ، ومن شهدء أحد سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بدفن شهداء المسلمين في مقبرة بجوار ساحة المعركة في وادي جبل أحد ومن المقابر المعروفة البارزة حتى اليوم قبر حمزة وقبر مصعب بن عمير رضي الله عنهما .
الدروس المستفادة لكل حين
إن التوازن النفسي والتحكم على السيطرة الذهنية والقيادة الرشيدة من أهم عوامل الفوز والنصر في كل المعارك النفسية والمادية ، فضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في التوازن والسيطرة والتحكم على زمام القيادة على الرغم من آثار الشائعات والحروب النفسية والبلبلة الفكرية في صفوف الجيش ، والدرس الثاني عدم الاندفاع للقتال قبل إعداد العدة التامة والاستطلاع اللازم والقرار الصريح من القائد العام المسؤول ، وحينما انحرف المسلمون قليلا عن الأمر الصريح للقائد وتركوا المكان بدون إذن منه حصلت النكسة في معركة أحد ، الدرس الثالث : إن الهدف الاستراتاجي في المعركة أهم وأخطر من الأهداف العسكرية أو الانتصارات المادية المؤقتة فإن قريش على الرغم من النصر الذي حققوه في البداية وميزان القوى الذي كان في صالحهم بدرجة كبيرة لم يساعدهم على تحقيق الهدف الاستراتيجي وهو القضاء على المسلمين وأحداث تغييرات في الموقف العسكري والسياسي في صفوفهم ، فكل هذا وذاك بفضل القيادة العسكرية والسيطرة السياسية لجانب المسلمين ، والدرس الرابع : الهام من دروس غزوة أحد إنما هو أن هذه الغزوة قد اعطت لأمة الإسلام مبدأ من أهم المبادئ الأساسية لمقاومة حملة الشائعات ومواجهة الحروب النفسية بثلاث طرق رئيسية الأولى : الثبات والتوازن بدون الاندفاع وراء الشائعات مهما كانت حدتها وآثارها السيئة ، والثانية : القضاء على الشائعات بسرعة إظهار الحقائق وإدخال الطمأنينة إلى نفوس الناس كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجرد سماع إشاعة مقتله إذ صعد إلى الجبل ونادى بأعلى صوته :”يا أيها الناس أنا رسول الله .. أنا هنا” وكان لذلك أثر فعال على إزالة آثار تلك الشائعة المدمرة وصار أفضل وسيلة للقضاء على فاعليتها على النفوس الضعيفة ، وأما الدرس الخالد من غزوة أحد فهو مبدأ ضرورة الأخذ بقانون الوقاية في كل الحروب وربط ذلك المبدأ بمسؤولية القائد وملابسات الزمان والمكان والسلاح والتكتيل العسكري كما هو واضح جلي من وقاية النبي صلى الله عليه وسلم حيث أدرك بثاقب فكره وطول مراسه وتجاربه العسكرية العديدة أن ظهر الجيش هو أضعف نقطة في ساحة المعارك وتقع المسؤولية الأولى للقيادة على حماية ظهرها لأن الأعداء المتربصين دائما يلتجئون إلى خدعة ومصيدة من الخلف ، ومن هنا ينبغي أن يستذكر قادة المسلمين في هذه المرحلة الخطيرة التي يمر بها العالم الإسلامي دروس غزوة أحد الكبرى وعليهم اتخاذ الهزيمة أو النكسة في البداية وسيلة إلى تصحيح الأوضاع وتجنيب الأخطاء وتخليص الإيجابيات من خلال السلبيات ، وأن الاعتبار ليس بالفشل البدائي بلل بالنصر النهائي ، وهذه الذكرى تشرق على الأمة بالبشرى .