الخليج اليوم – قضايا إسلامية – الثلاثاء 1-أبريل-1986 م
وردت إلينا تساؤلات وشبهات حول أسباب اختيار المسلمين بداية تاريخهم بالهجرة النبوية أي بعام هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلة المدينة المنورة ، ويقول بعض المتسائلين : لماذا لم يؤرخ العرب المسلمون بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم مثل التاريخ الميلادي المعروف اليوم أو بحادثة وفاة شخص مشهور وبارز كما أرخت قريش بموت هشام بن المغيرة المخزومي لعظمته فيهم أو بتاريخ حرب مشهورة مثل تاريخ عام الفيل ؟
مفهوم التاريخ وهدفه
وقبل أن نلقي بعض على الأسباب والخلفيات التي يمتاز بها التاريخ الهجري عن التواريخ الأخرى الراهنة ، نقوم بجولة سريعة حول لفظ “التاريخ” لغة واصطلاحا استيعابا للموضوع وتعميما للفائدة : تاريخ الشيئ : غايته ووقته الذي ينتهي إليه ، ويقال : فلان تاريخ قومه في الجود والسخاء أي الشخص الذي انتهى إليه ذلك ، وقال بعض أهل اللغة : التاريخ معناه : إثبات الشيئ ، وقال آخر : معناه التأخير ، وفيه فعلان حسب لغة “تميم” ولغة “قيس” ، ويقال في لغة تميم : أرخت الكتاب توريخا ، ويستلدون على هذه الصيغة بقوله تعالى : “ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها ” أي أكد الأمر تأكيدا ووكد الأمر توكيدا .
وفي لغة قيس يقال : أرخت الكتاب تأريخا ، وأما التاريخ بلغة قيس فهو الشائع بين الجمهور وإن كانت العرب تتكلم به .
وكان العرب يؤرخون بالنجوم قديما ومنه صار بعض الكتاب والمؤلفين يقولون : نجمت على فلان حتى يؤديه في نجوم والعرب تخص بالنجوم الثريا فيقولون : إذا طلع النجم يريدون الثريا.
لكل أمة ومملكة ونبوة تاريخ ، ولكل أمة ونبوة ومملكة تاريخ معين ويكون ابتداء ذلك التاريخ بيوم مشهود أو حدث معروف فأرخ بنو إسماعيل من حادثة نار إبراهيم عليه السلام ، ثم أرخ العرب من بنيان بيت الله الحرام بمكة المكرمة بأيدي بني إسماعيل واستمر ذلك إلى موت كعب بن لؤي ثم أرخوا بعام الفيل وفيه ولد النبي صلى الله عليه وسلم وكانت ولادته في السنة الثامنة والثلاثين من ملك كسرى أنوشروان .
عادة التاريخ بالموت والحوادث
وقد أرقت قريش بموت هشام بن المغيرة المخزومي لمكانته الجليلة فيهم ولذلك قال شاعر قريش ، عن رثاء هشام :
– وأصبح بطن مكة مقشعرا كان الأرض ليس بها “هشام” وأرخت العرب أيضا بعام “الخنان” وأما الخنان على وزن “غراب” مرض هاج في أنوفهم وحلوقهم ومات به كثيرا من الناس وعظم عندهم أمره وأصبحت تلك الفترة الحرجة في أيام العرب معروفة وثابتة في تاريخهم وكانت في عهد الملك المنذر بن ماء السماء كما هو مدون في كتب اللغة وأيام العرب .
سبب التاريخ بالهجرة
لقد كتب أبو موسى الأشعري إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنه يأتينا من أمير المؤمنين كتب ليس لها تاريخ ، فلا ندري على أيها نعمل ؟ . وروى أيضا أنه قرأ صكا محله شعبان ، فقال: أي الشعابين ؟ الماضي أم الآتي ؟ وفكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في اختيار حدث مناسب لاتخاذه بداية لتاريخ المسلمين واستوضح آراء وأفكار الصحابة الكرام فقال البعض : نؤرح بمولد النبي صلى الله عليه وسلم في عام الفيل ، وقال الآخر : نؤرخ من المبعث أي من يوم بدء الوحي عليه الصلاة والسلام ، ثم أجمع الرأي على اختيار الهجرة النبوية بداية لتاريخ المسلمين إلى الأبدلأن الهجرة هي التي جولت الدعوة الإسلامية من دائرة أو القرى إلى قارات الدنيا ومن السر إلى العلن ومن المحلية إلى العالمية وبها تم وضع الحجر الأساسي لبناء مجتمع إسلامي متكامل ، ولتشييد دولة إسلامية أولى على وجه الأرض ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد انتقل من قاعدة إلى قاعدة أوسع وأكثر استراتيجية لتأسيس قواعد الدولة الإسلامية وشرائع المجتمع الإسلامي ، لهذا لا نرى في القرآن أو الحديث استعمال كلمة “هجر” على واقعة الهجرة النبوية ، لأنها تدل على الترك أو الفرار وإنما الاستعمل فيهما فعل “هاجر” الذي يدل على لتفاعل والتعاون والمشاركة من الطرفين ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يهرب من مكة ولم يكره على الإقامة فيها ولم يطلب الالتجاء إلى مكان آمن ولكنه انتقل من استراتيجية إلى استراتيجية أكثر فاعلية أفاقية لأداء مهمته وإبلاغ دعوته وتكوين أمته وتدعيم دولته .
ومن هنا نرى أن تاريخ البشر كله لم يشهد مشهدا ولم يعرف حدثا ولم يسجل يوما خالدا غير مجرى التاريخ الإنساني مثل حادثة انتقال مركزية دعوة محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وما تلاه من حوادث جسام وأعمال عظام ، وإنما الهجرة هي التي فتحت أبواب “الفتح المبين” للإسلام والمسلمين ، وإليه يشير دستور الإسلام الخالد مخاطبا صاحب الهجرة “إنا فتحنا لك فتحا مبينا” .
وهذه بعض الأسرار الكامنة في اختيار المسلمين الهجرة النبوية بداية لتاريخهم ، على مدى العصور والدهور ، وفيه تذكير لعزتهم وتشحيذ لهممهم وتخليد لحضارتهم ، وتحرير لذمتهم من التبعية والتقليد لكل ما هب ودب من خرافات وخزعبلات ، وفيه أيضا مظاهر وحدتهم وملامح شخصيتهم وبواعث كرامتهم .