العالم العربي – مارس 1954م
إن الصلات التاريخية والثقافية بين القارة الهندية والبلاد العربية لترجع إلى عهود بالغة في القدم ، ثم تطورت تلك الروابط حسب تقلبات الزمن حتى صارت الآن موثقة العرى وموطدة الأركان .
يقول العلامة الإمام الشهرستاني المتوفى سنة 548هـ-1153م في كتابه (الملل والنحل) في معرض تقسيم أهل العالم : منهم من قسمه بحسب الأمم فقال : كبار الأمم أربعة العرب والعجم والروم والهند ، ثم زواج بين أمة وأمة ، فذكر أن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد ، وأكثر ميلهم إلى تقرير خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات والحقائق واستعمال الأمور الروحية ..
ويقول المؤرخون : أن أول أسطول مسلم ظهر في المياه الهندية سنة 939 ميلادية أيام الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وذلك لما أرسل وإلى البحرين وعمان ، وجيشا عن طريق البحر إلى بلدة (تانا) ولم يستحسن الخليفة هذا فوبخ الوالي عليه ، وقيل أنه قد درست في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخطط الحربية البرية لهذه المنطقة إلى حدود الهند فأصبح العرب على علم بها واستفادوا بها في فتحهم السند في القرن الثامن بقيادة محمد بن القاسم القائد العرب الكبير ومن هذا القرن أخذ نفوذ العرب يزداد في أنحاء الهند ، ومحصولاتها محل إعجاب التجار العرب وتقديرهم ، فكان التجار العرب يفدون إلى سواحل البلاد الهندية لتبادل السلع والمتاجرة مع أهلها عن طريق البحر وكان بعضهم يمكث هناك شهورا وأعواما ، والبعض الآخر يستوطن فيها ويتزوج من أهلها ، وفبعد مجيء الإسلام في جزيرة العرب كان العرب المتشبعون بالدعوة الإسلامية يقومون بنشرهافي انحاء البلاد لأن الإسلام دين الدعوة وحق ، وكل مسلم بطبيعته مبشر لدينه بأقواله ومعاملاته بل بحركاته وسكناته ونالوا كل الاحترام والتقدير من حكام الهند وأهلها لأنهم قدموا إلى الأرض الهندية معززين محترمين وقد رحبت بهم الحكومات الوطنية وسهلت لهم السبل للمكث وامتلاك العقار ، وأطلقت لهم الحرية الدينية ، ويعزوا كثير من المؤرخين انتشار الإسلام في القارة الهندية إلى مخالطة تجار العرب للهنود هذا قبل دخول جيوش المسلمين في شمال الهند الغربي سنة 91 هجرية ذلك أن تبادل التجارة كان قائما بين البلدين منذ أيام الجاهلية فكان من الطبيعي أن يحمل التجار العرب إلى بلاد الهند أنباء هذا الدين الجديد وأن يبشروا به عقب ظهوره بجزيرة العرب .
وأول بقعة أشرقت بنور الإسلام من البلاد الهندية هي ولاية “مليبار” في جنوب الهند الغربي المواجهة لبحر العرب ، وأن أول المستعمرات التجارية الأجنبية على ساحل مليبار كانت للعرب قبل أن تكون لغيرهم من البرتغاليين والانجليز ، ومما هو جدير بالذكر أن الصوفيين والزهاد كان لهم نصيب وافر في نشر الإسلام ، في تلك البلاد وإليهم يرجع الفضل الأكبر في هذا الباب بعد التجار والملاحين .
فلما كانت القارة الهندية تحت السلاطين المسلمين المغول أسسوا في جميع أنحاء الهند معاهد وجامعات إسلامية عربية ، وأمروا بترجمة أمهات الكتب الهندية إلى العربية ، ومن اللغة العربية إلى اللغات الأعجمية ، وأرسلوا بعثات إلى جامعات ومعاهد الدول العربية للري من مناهلها والتزود من ينابيعها الفياضة ، ومع وجود مسافات شاسعة وبحار واسعة بين البلاد العربية ومراكز ثقافاتها وبين القارة الهندية نجد علماء الهند قد خدموا ولا يزالون يخدمون اللغة العربية وآدابها وفنونها خدمات جديرة بأن تذكر ، وتشكر وأن عددا ضخما من علماء الهند قد نبغوا في اللغة العربية وآدابها ووقفوا حياتهم على دراستها والتعمق في علومها والتأليف فيها تصدى لها علماء العرب وتبرعوا بإنتاج قيم إلى المكتبة العربية ، وليس من الغريب أيضا أن نجد أكثر من ثلاثين في المائة من الألفاظ العربية في اللغة “الأوردية” التي كانت هي اللغة السائدة في معظم القارة الهندية ، واللغة الرسمية الآن بباكستان ، وقد كتب العلامة عبد العزيز الخولي في كتابه مفتاح السنة “في تاريخ علوم الحديث” يقول :”إنه قد نضب ماء علم الحديث في البلاد الإسلامية لكنه لا يزال حيا في الهند وأن إخواننا العلماء الهنود يدرسونه ويؤلفونه في علم الحديث ويهتمون به اهتماما لا مثيل له في أي بلد من بلدان العالم الإسلامي ، وكذلك الطب العربي من قرون ولكنه لا يزال يدرس في المعاهد الإسلامية والعربية بالهند ويمارسونه ويتطببون به ويؤلفون فيه كتبا قيمة ، وهناك مؤلفات عربية لعلماء الهند قد شرحها وكتب حواشيها علماء العرب الكرام تقديرا لقيمتها ، وإعجابا منهم لأسلوبها ومحتوياتها .
وبعد أن عاشت القارة الهندية قرنا تحت نير الاستعمار الغاشم وعرفت ذله وهوانه وقاست لذعات المجاعة والامتهان ، نتيجة للاستغلال الاستعماري وأساليبه ثم هبت شعوبها وحشدت كل قواها أمام هذا المستعمر الطاغي والباغي ، فطهرت القارة الهندية من الانجليز المستعمرين سنة 1947 بعد كفاح مرير فقامت فيها دولتان كبيرتان (الهندستان ، والباكستان) فرسمت خطة سياستها على أساس توثيق العلاقات الثقافية ، والتجارية والسياسية مع دول العالم كلها على وجه عام وبالبلاد الشرقية والعربية بوجه خاص بحق الجوار وبحق المشاطرة في الآلام والآمال ، فأرسلت البعثات الدبلوماسية إلى كل قطر من الأقطار العربية وكذلك جرى تبادل البعثات العلمية والأدبية بقصد توثيق عرى الروابط الثقافية والروحية ، وفي الوقت الحاضر نرى وعيا ويقظة في طول البلاد الشرقية التي تحررت من نير الاستعمار الغاشم قريبا بعد أن لاقت منه ما لاقت من ذل وهوان ، وكذلك التي هبت وحشدت كل ما في وسعها للقضاء على البقية الباقية من آثارها في البلاد الشقيقة ، ومن هنا أن قضية مصر والسودان وسائر البلاد العربية وكفاح شعوبها لطرد المستعمر واستكمال حقوقها وسيادتها لا تختلف في شيء عن قصة كفاح الشعوب الهندية في سبيل التحرر الوطني وأن هذه الشعوب لترقب الآن تطورات الموقف في مصر والسودان وغيرها بكثير من الاهتمام وتشاطرهم في الآلام والآمال ، فلا نشك في أن أبناء وادي النيل سيقفون جميعا صفا واحدا في سبيل حقوقهم ، ولا نشك أيضا في أنهم سيستأصلون كل عضو خائن من بينهم .
“يا أبناء وادي النيل لا تخافوا الانجليز ولا تظنوا أن لهم قوة أو هيبة في العالم الحاضر فإننا هدمنا صرح امبراطوريتهم وهززنا دعائمهم ، وأنزلنا درة تاجهم من رءوسهم ، وبقي لكم الآن القضاء التام على البقية الباقية من آثار هذا المستعمر الغاشم العجوز فاتحدوا واستعدوا فاقضوا عليه فنحن وراءكم” .