العالم الإسلامي في مفترق الطرق
شهر رمضان يدعو أمة القرآن للخروج من ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام
الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 23-أبريل-1987 م
بعد أيام قليلة يطل على العالم الإسلامي شهر رمضان المبارك ، الذي بدأت فيه الصلة الربانية بين السماء والأرض ، لتعود إلى الإنسانية معالم الحياة الفطرية القويمة اتي تحقق لها سعادتي الدنيا والآخرة وتنشر أواصر الأخوة وتدعم روابط الود والوئام وترفع راية العدالة والمساواة وتقضي على رواسب العصبيات والمتاهات الطائفية والقبلية ، وكانت بداية هذه الصلة مع نزول أول وحي في ليلة القدر في رمضان المبارك ، وتتوالى نزوله أول هدى وبينات وفرقانا للناس ، وقد بين الله تعالى الغاية القصوى من إنزال كتابه الخالد وإرسال خاتم رسله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم :”هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ظلال مبين ” (الجمعة : 2) . وبفضل هذا النظام القرآني الرباني قد خرج المجتمع الجاهلي الأمي من ضلال مبين إلى فتح مبين ، وهذا العلاج ناجح وناجع لكل مجتمع مماثل وفي كل عصر مشابه لأنه دواء خالد من رب العالمين كلما أصاب أمة أو قوما مرض أو علة مثلما أصاب أسلافهم ، وهذا هو السر الكامن في الأثر الحكيم :”لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها” ،ففي هذا المفترق الذي يقف العالم الإسلامي اليوم ، يطل عليه شهر القرآن ويدعو أمته بأعلى صوته للرجوع إلى نور الإسلام من الظلمة المدلهمة وغياهب المتاهات وبوائق الخلافات ونوائب الفرقة والشتات ففي الماضي عبرة لأولى الأبصار .
إن هذه أمتكم أمة واحدة
إن شهر القرآن يدعو المسلمين بكل قوة وصراحة إلى العودة إلى الرشد العقلي والتدبر الفكري كما أنه يدعوهم إلى التوقف عن التراشق فيما بينهم لأسباب تافهة ، وإلى أن يكونوا بمستوى إسلامهم ومستوى مسؤوليتهم الكبرى في هذا العصر الخطير المحفوف بأنواعه من الحروب والكروب والألاعيب والخفافيش جنا وانسا ومن حق هذا الشهر العظيم على كل مسلم أن يشعر بأنه فرد من الأمة الإسلامية التي أراد الإسلام أن تقوم على وحدة المنهج في الحياة ، وأن الخصومات والحروب التي تجري بين طوائف ودول هذه الأمة إنما تعرض حاضرها للخطر وتضع مستقبلها في كفة القدر ، وأن هذا الشهر فرصة للمسرفين والمعاندين ، والمكابرين بل والقانطين من صلاح الوضع الراهن للعودة إلى جادة الطريق نداء العقل السليم :”ولا تقنطوا من رحمة الله” صدق الله العظيم .
“الإسلام” يدعو إلى الوحدة والسلام
إن الإسلام لوحه الله تعالى واتخاذ دستوره نظاما للحياة يوجب على كل مسلم كفرد وعلى المسلمين عامة كامة الإسلام أن يعيشوا في سلام ومساواة وأخوة وتعاون وحرية وأن العقيدة الإسلامية هي أساس الأخلاق الكريمة والمعاملات الحسنة كما أنها خير علاج للأهواء ، والمطامع الشخصية والمآرب الذاتية فالناس قد زين لهم حب الشهوات ، وأن سلطانها في ذات الإنسان قوي على قلبه وجوارحه ، وأن العقيدة الإسلامية الصافية هي التي تحرر الإنسان من عبودية الشهرة ، وتحد من سلطان الغرائز ، وتضع لها الحدود المناسبة ، وتستجيب لدواعيها بالطريقة المشروعة وتقضي على الصراع الذاتي بالإيمان والسلوك القويم وحينما يحقق الإنسان التوازن بين العقل بمبادئه والقلب بغرائزه تتهذب النفس وتصفو من أدران الأحقاد والضغائن والكبرياء والغطرسة .
وحدة الصف مسئولية كل مسلم
هناك بعض المفاهيم الخاطئة فيما يتعلق بشؤون الأمة أو المجتمع وفيما يتعلق بشؤون الأفراد من حيث كونها من الأمور والأحوال الشخصية مثل عبادات الأبدان كالصلاة والصوم والحج وغيره وأما مسؤولية المحافظة على وحدة الصف بين المسلمين فإنما هي مسؤولية في عنق كل مسلم ، وليس فقط مسؤولية حكام المسلمين أو علمائهم أو دعاتهم .
وقد أوجب القرآن على كل مسلم احترام حقوق الغير وأحاسيسه ومشاعره فلا يجوز لمسلم أن يحقر أخاه المسلم إن ذلك يتسبب في الخصام والنزاع والفرقة فالقتال .
وفي مقدمة أسباب الاحتقار المؤدي إلى الانفصال “السخرية” فيمنع القرآن منعا باتا هذه الخصلة المؤذية فقال :”يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسلا أن يكن خيرن منهن” (الحجرات : 11) .
وهكذا يحمي الإسلام الساخر من نفسه كما يحمي أخاه منه ، ثم قال :”ولا تلمزوا انفسكم ولا تنابزوا بالألقاببئس لاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون” (الحجرات : 11) ، فكيف يتوقع إنسان عاقل من إنسان آخر يسخر منه ويحقر ويضحك عليه أن يتخذه أخا ويدافع عنه وينضم إلى صفوفه عند الشدائد ؟ ومن منافذ الفرقة والخصام أيضا سوء الظن والبحث عن عيوب الآخرين فقال تعالى :”يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بضعا” (الحجرات : 12) ، وهكذا قد جعل الله سبحانه وتعالى مسؤلية وحدة الصف وسد باب والفرقة والنفرة بين الأخوة مسؤولية شخصية بحيث أصبح كل مسلم مسؤولا عن درء المفاسد والابتعاد عن الأسباب المؤدية إلى فتح الخصام والنزاع بين المسلمين ، كما أعلن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بكل وضوح وجلاء :
“المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله ، كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه ، التقوى ههنا ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ” (متفق عليه) .
حق الإصلاح بين المسلمين
ولا تتوقف مسؤولية العمل لتوحيد صفوف المسلمين على أن يعمل كل مسلم في حدود ذاته وفي نطاق فرديته فحسب بل يجب على الأمة الإسلامية اتخاذ الخطوة الأولى في فض النزاع بين المسلمين بالحسنى والعدل والقسط بدون أي انحياز أو انحراف عن طريق الحق والإنصاف وإلى هذه المهمة الملزمة للمسلمين جميعا يدعوهم رب العزة فقال :”وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين” (الحجرات : 9) .
ويجب على المصلحين أولا معرفة سبب النزاع ثم القيام بسعي عادل ومقبول عند العقل السليم ، لدى الطرفين لحسم النزاع سلميا لأن العزة والكرامة في العودة إلى أمر الله عدله وفضله ، وأن الاستمرار في الاستعلاء والاستكبار سيجلب الخزي والذل لكلا الطرفين أمام الناس أجمعين وخاصة يجلب ذلك الوضع شماتة الأعداء ويفتح الباب أمامهم للانكباب على الطرفين معا ، وأن هذا الشهر قد ارتفع بالمسلمين عن نعرات الطائفية والعنصرية والقبلية ، وحثهم على تأصيل معاني الأخوة وتعميق مبادئ الارتفاع عن الأنانية والطمع والجشع حتى يكونوا في هذا الشهر شاعرين بصدق واستجابة لنداء شهر القرآن بالتساوي والتكافل بين جميع أفراد الأمة وجماعتها .
القاعدة الأولى للوحدة
وقد وضع القرآن في أول ما نزل من آياته في هذا الشهر العظيم قاعدة الوحدة بين الناس من إسلام الوجه لرب العالمين الذي خلقهم وصورهم بأحسن تقويم ومن تحذيرهم عن الطغيان وحب الاستغناء فكل منهما بؤرة الفساد والفوضى ومصدر الفرقة والشتات بين إنسان وأخيه الإنسان ، فيعلن أول ما نزل من هذا المنهج الرباني الذي جاء نورا وهدى ، لتحقيق السعادة للبشرية كافة في الحياة والحياة الأخرى لأنهما في الحقيقة وجهان أو شكلان مختلفان لحياة واحدة فإن الموت ليس نهاية للحياة بل هو الانتقال من دار إلى دار فلكل منهما طبيعتها ونظامها فالأولى دار العمل والثانية دار الجزاء والأولى دار الفناء والثانية دار البقاء والأولى دار الفرار والثانية دار القرار “اقرأ باسم ربك الذي حلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ، كلا إن الإنسان ليطغى ، أن رآه استغنى ، إن إلى ربك الرجعى” (العلق : 1-8) . وتمر السنون والشهور ، وهذا الشهر المبارك يطل على المسلمين ليعيد إليهم المعاني الكبيرة والقيم النبيلة التي يجب أن لا تغيب عن حياتهم في تقلبات العصر وتغيرات الزمن وتجددات الظروف ويذكرهم هذا الشهر أن الطغيان والأثرة والأنانية سوف يؤدي إلى تسرب الوهن والضعف إلى كيان الأمة الإسلامية فتزداد الفتن وأسباب الفرقة فيضعف التآلف والتعاون والتقارب بين أوصالها فيطمع فيها الأعداء وتندس في صفوفها الشياطين من الإنس والجن ليفسدوا فيما بين جماعات المسلمين ودولهم وحكوماتهم وليبثوا بذور الشقاق بينهم ، وإنما تأتي هذه المصائب حين ينسون نصح الله تعالى لهم ويضعف الإيمان برب العالمين في قلوبهم وان رمضان هو الموسم الذي يذكر أمة القرآن بهذه المسئولية كلها .