الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 9-أبريل-1987 م
كما يكون لبعض الأمكنة ميزات وخصائص وفضائل وعظات يذكرها الناس ويكتب عنها المؤرخون والأدباء وينشد بها الشعراء ، يكون لبعض الأزمنة ميزات وخصائص ذات ذكريات وعبر ، فمن هذا المنطلق الفكري والمنطق التاريخي نجد لشهر شعبان ميزات وخصائص خالدة لا تجتمع لشهر آخر من شهور السنة تجدر الإشارة من تلك الصفات المميزة الشعبانية أن شعبان يحمل في طياته ثلاث ميزات خاصة ذات مفاهيم سامية ودلالات عالية فهي : أنه بمثابة بشرى للمؤمنين بقرب حلول سيد الشهور والأيام كما أنه يقع بين شهر الإسراء والمعراج وشهر الهدى والفرقان وهو أيضا مرحلة الختام السنوي لأعمال الإنسان المؤمن منذ نهاية رمضان الماضي وبداية مرحلة جديدة من بداية رمضان القادم .
بشرى بقدوم سيد الشهور
إن حلول شعبان يبشر المؤمنينفي مشارق الأرض ومغاربها، بقرب حلول شهر رمضان الذي هو سيد الشهور والأيام على الإطلاق عند الله وعند الملائكة وعند المؤمنين كافة كما أنه شهر العبادة والتوبة وشهر الفرقان والغفران ، هو الشهر الذي اختاره خالق البشر والقوي موسما مناسبا لبدء الصلة بين السماء والأرض بإنزال كتابه الحكيم وقرآنه الكريم وفرقانخه العظيم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم نورا وهدى وفرقانا للبشرية جميعا فيقول هاديا ومرشدا إلى هذه الحقيقة الكبرى وتلك المناسبة العظمى: “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان” (البقرة : 185) ، وأنه الشهر الذي اختاره الله تعالى من بين شهور السنة جميعا لأن تتحقق من خلاله الهداية الإلهية لمسيرة البشرية في نور ورشاد وأمن ونجاح ، فلا بد من استمرار هذه الصلة واستذكار تلك المناسبة واعتبار ميزاتها الخالدة .
الميزة الزمنية لشعبان
وجدير بالاعتبار أن شهر شعبان يقع بين شهرين فاضلين لهما مكانة كبرى وميزة عظمى في تاريخ الإسلام والمسلمين بل وتاريخ الإنسانية جمعاء فأما الشهر الذي سبقه فهو رجب المعظم أحد الأشهر الحرم وهو الشهر الذي حصلت فيه واقعة الإسراء والمعراج التي كانت نقطة تحول خطير وهام في تاريخ الكون كله حيث أسرى رب الكائنات بعبده المصطفى وخاتم رسله ، ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله ليريه من آياته الكبرى ومن هناك عرج به إلى السماء العلى ، وكانت حادثة الإسراء والمعراج مكرمة عظيمة وخالدة لرسول الثقلين وميزة خاصة ميز الله تعالى بها خاتم الأنبياء والرسل الذي أكمل به خلقات الرسالات السماوية وأتم نعمته على خلقه إذا أعلن : “اليوم أكلت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا” (المائدة : 3) .
وأما الشهر الذي سيلحقه فهو سيد الشهور والأيام ، إلا وهو شهر رمضان المبارك ، وإذا كان رجب شهر أعظم الأحداث وأعجب المعجزات وأندر الكرامات فإن رمضان شهر أعظم الفتوحات وأهم الانتصارات من فتح مكة وغزوة بدرالكبرى وغيرهما ، وكفى لشعبان فخرا وعظمة أنه يأخذ أثرا خالدا وميزةكبرى من سابقه ولاحقه ، وهو بصفة عامة شهر الإعداد والتهيئة والتضحية لاستقبال رمضان المبارك .
من فضائله الأثرية
وجاء في الأثر النبوي أنه قال : “ترفع أعمال العباد في شهر شعبان إلى رب العالمين وأحب أن يرفع عملي فيه صائما ” ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت : “لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم من شهر أكثر من شعبان فإنه كان يصوم شعبان ، وفي رواية كان يصوم شعبان إلا قليلا” (متفق عليه) .وكان هدف الإكثار من الصوم في شعبان هو الإعداد النفسي والعملي لاستقبال رمضان الذي هو شهر العبادة والقرآن وجميع أصناف الخيرات والتضحيات وجلائل الأعمال .
وكما يكون لبعض الأمكنة ميزات وخصائص ومناسبات يذكر بها ، يكون لبعض الأزمنة ميزات ومناسبات تعاد ذكرياتها وعظاتها ، فإن شهر شعبان بصفة كونه الختام السنوي لرفع الأعمال السنوية حيث انتهت فيه مرحلة من المراحل العملية للإنسان من رمضان إلى رمضان ، فتبدأ مرحلة جديدة من الجد والاجتهاد والتضحية من قدوم رمضان من جديد ، يمكن أن يطلق عليه شهر المراجعة السنوية لصالح الأعمال ويكثر فيه المؤمنون من الصوم والعبادات والخيرات ليكون ختام السنة المتصرمة طيبا كما يكون افتتاح السنة المقبلة على أتم الاستعداد والاستذكار .
المستحبات والمستحدثات في ليلة النصف من شعبان
لقد جرت العادة بين المسلمين في كثير من البلاد وخاصة في آسيا وأفريقيا بالاحتفال بليلة النصف من شعبان بطرق مختلفة من إقامة حفلات واجتماعات وإعداد أطعمة وحلويات خاصة إلى جانب بعض الأدعية والأذكار والأوراد يتلوها المحتفلون بهذه المناسبة في المساجد والبيوت ، وأجد نفسي مضطرا بواجب الأمانة العلمية وبشعور النصيحة الدينية التي ينبغي أن يلتزم بها كل مسلم غيور ومصلح أمين في خدمة العلم والدين ، لأن أتوجه إلى علماء المسلمين العاملين بصدق وإخلاص بصفة خاصة وإلى جماهيرهم بصفة عامة ، برجاء أخوي قلبي ، للنظر في بعض الحقائق الثابتة التالية ، بقلب سليم وفكر حكيم ووعي أمين وإخلاص مبين ، بدون تحيز او تعصب وبلا تحزب أو تمذهب والله ولي التوفيق .
شبهة عن ليلة مباركة
لقد جاء في سورة الدخان قوله تعالى : ” إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم” (الدخان : 4) . فيزعم البعض إنها في ليلة النصف من شعبان ، وهذا الزعم يناقض الواقع والعقل لأن ثلاث آيات قد وردت في ذكر فضل الليلة التي بدأ فيها نزول القرآن الكريم على خاتم الأنبياء والرسل فالأولى : “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن …” (البقرة : 185) والثانية : “إنا أنزلناه في ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر ” (القدر : 3) . والثالثة : “أنزلناه في ليلة مباركة” (الدخان : 4) . والمقصود في الآيات الثلاثة هو ليلة بدء نزول القرآن فلا يمكن أن تكون عقلا وشرعا إلا ليلة في رمضان وهي ليلة القدر فيه وهي الليلة المبارمة .
الأحاديث المروية في فضل شعبان
ومن الأحاديث التي تروي في شأن ليلة النصف من شعبان ما رواه ابن ماجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ” إذا كانت ليلة نصف شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها” ، ومنها كذلك ما رواه البيهقي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها :”هذه ليلة النصف من شعبان ، إن الله يطلع على عباده في ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين ويرحم المسترحمون ، ويؤخر أهل الحقد كما هم ، وتوارت روايات عديدة في مثل هذا المعنى ولكن لم تبلغ واحدة منها درجة الصحة الموثوق بها عند علماء مصطلح الحديث كما لم يرد أي حديث بهذا الشأن في الصحيحين ، البخاري ومسلم ، مع أن فحوى تلك الأحاديث الضعيفة يتلخص في فضل هذه الليلة وقيامها وصيام نهارها ، ولعل السر فيها إن صحت تلك الروايات إنما هو تنبيه المؤمنين إلى اقتراب شهر رمضان ، شهر العبادة والطاعة وإعدادهم نفسيا لإحياء ليالي رمضان بالعبادة وأداء الصيام في أيامه .
صفوة القول في أدعية شعبان
أما الأدعية المشهورة التي تتلى وتنشر وتوزع بين الناس باسم دعاء ليلة النصف من شعبان أو أدعية ليلة البراءة وغيرها فلم يثبت شيء منها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا عن السلف الصالح . وجدير بالذكر أنه لم يعرف أيضا واضعو هذه الأدعية سوى أن بعض فقراتها منقولة من الأدعية العامة لبعض الصالحين ، وأن الخطر الكامن في مثل هذه الأدعية أن بعض عباراتها تحتوي على ألفاظ وجمل لا يجوز أن تقال في حق الله تعالى حسب عقيدة الإسلام الصحيحة مثل عبارات تدل على نسبة المحو والإثبات إلى الله عز وجل في ظل ذكر هذه الآية القرآنية “يمحو الله ما يشاء ويثبت وعندهم أو الكتاب” (الرعد : 39) ، وأن مفهوم الآية قد استخدم في الدعاء الموضوع للتلاوة في ليلة النصف من شعبان أو غيرها خلاف ما فهم منها علماء أهل السنة والجماعة وعكس ما فسره السلف الصالح ودونته كتب التفسير والدعاء مستحب في كل وقت وخيره وأحب إلى الله ما ورد لفظه في القرآن والسنة .
ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جمع الناس في المسجد أو في مكان آخر في مثل هذه الليلة سواء لإقامة صلاة خاصة أو لعبادة معينة أو لتلاوة دعاء مخصوص وكذلك لم يرد أي أثر من هذا القبيل عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو السلف الصالح في خير القرون ، ويجب على المسلم الذي له فهم سليم وذوق صحيح ووعي حكيم وإدراك منطقي لحقائق الأمور وخاصة في الشؤون الدينية أن يتخذ القدوة والأسوة في كل ما يتعلق بالمسائل الشرعية من الكتاب والسنة النبوية وسنة الخلفاء الراشدين ، وأن يجتنب المستحدثات والمبتدعات مهما قويت شوكتها بين الناس وتعمقت جذورها وانتشرت رواسبها في شتى البلاد ، وعليه التثبت والتحرى في مثل هذه الأمور ذات صبغة دينية .
نداء ورجاء
أما العبادات من حيث العبادات فمطلوبة ومثابة من عند الله تعلى ، ولكي كيفياتها وهيئاتها وصفاتها تحتاج إلى دليل شرعي من الكتاب والسنة لأنه قد جاء منع صريح وشديد من أحداث أي شيئ في الدين باسم الدين وبحكم العباد إلا بأمر من الله ورسوله فقال صلى الله عليه وسلم : “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه (من عمل عملا ليس عليه أمرنا ) فهو رد” (رواه مسلم) .
وأن الأدعية والأذكار العامة فإنها أيضا مطلوبة في أي وقت وفي أي مكان وأما تخصيص وقت خاص لها وهيئة خاصة بقصد إعطائها صفة دينية باسم العبادة فيحتاج إلى دليل شرعي ، وأن الاحتفالات بليلة النصف من شهر شعبان مع تخصيص أدعية وأذكار فيها وتخصيص صوم في ذلك اليوم باسم صوم نصف شعبان وإقامة الموائد والحلقات الذكرية وغيرها بعد خير القرون ، إنما هي مستحدثات وبدعة ينطبق عليها حكم محدثات الأمور المنهي عنها في نص الحديث النبوي في حالة إعطائها صفة العبادة والأمور الدينية ، وقال أيضا : “وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة” (رواه مسلم) .
وأن الصلوات المعروفة لجى طائفة من عامة الناس باسم صلاة نصف شعبان فبدعة مكروهة بإجماع العلماء والفقهاء وكفى لنا دليلا على ذلك النص الصريح للفقيه الشافعي الشيخ زين الدين بن عبد العزيز المعبري المليباري في كتابه الشهير “فتح المعين” إذ يقول :”أما صلاة المعروفة ليلة الرغائب ونصف شعبان ويوم عاشوراء فبدعة قبيحة وأحاديثها موضوعة” (فتح المعين بشرح قرة العين فصل صلاة النفل) .
وبعد : فإن الأمانة العلمية طوق على رقاب أهل العلم فلا يكتموها .