الخليج اليوم – قضايا انسانية –27/11/1985
ن التقدم التكنولوجي والعلمي ضرورة ملحة للتقدم الحضاري في كل زمان ومكان ، ولكن الإنسانية لا تتقدم بمكونات المادة فقط لأن الإنسان كائن حي يتألف من عنصرين أساسيين هما : المادة والروح ، وكما يصح الجسم ويتقوى مكونات الغذاء والشراب والهواء الطلق ، يحتاج العنصري الروحي أو النفسي منه إلى مكونات القيم والأخلاق القائمة على الإيمان الصحيح والعمل الصالح . وأن القول بأن كل مشكلة تواجهها البشرية في هذه الحياة الدنيا يمكنه حلها علميا ونظريا ، قول بعيد عن الحقيقة لا يمت إلى حل سليم واقعي بصلة .
ونرى اليوم أن التقنية أو التكنولوجيا قد جاءت بمكاسب عديدة ومتنوعة لدنيانا اليوم ، واستفادت البشرية من الانجازات العلمية الهائلة كثيرا حتى تتلاشى بواستطها المسافات والحواجز الطبيعية بين القارات والبلدان في مشارف الأرض ومغاربها ، ولكن هذه المخترعات المعاصرة والتقنية الحديثة لم تحل المشاكل الرئيسية التي تتخبط فيها الإنسانية وأن المعضلات العالمية والمصائب البشرية صارت أكثر حدة اليوم من الماضي وأن تلك المعضلات تزداد خطورتها من يوم إلى آخر بحيث لا يمكن معالجتها بالطريقة العلمية المحضة .
العقدة الإنسانية وعلاجها
ومما لا شك فيه أن العقدة الإنسانية قد صارت تسيطر في هذا العصر على سائر مرافق الحياة البشرية ، ونسمع كل يوم ، من كل مكان في عالمنا المعاصر ، عن مظاهر مقلقة ومخيفة للغاية ، للفوضى والرعب والإرهاب والتخريب والغزو والتمرد ، وموجات الردة عن النظام والأخلاق الإنسانية وانتشار الشذوذ الجنسي والمخدرات وشيوع المذاهب الهدامة الفوضوية حتى صار وضع العالم اليوم أقرب إلى الحياة البدائية منه إلى الحياة المتحضرة ، والسؤال الآن هو : كيف يمكننا المحافظة على قدر ضروري من النظام والوئام والقيم الإنسانية ؟ ولا يمكن أن يقول أحد أن اللجوء إلى ما يسمى بالحل العلمي ، إلى كل ما يواجهه المجتمع الإنساني اليوم من مشاكل فردية أو اجتماعية وعالمية . وفي ضوء المنطق الطبيعي ، والتجارب التاريخية والدراسات الموضوعية نستطيع أن نقول بكل صراحة ووضوح وشجاعة أن اللجوء إلى القيم الأخلاقية الفاضلة التي نادى بها وإليها جميع الأنبياء والرسل وأصحاب النظر والفكر منذ بدء الخليقة والمتمثلة في الكتب والرسالات السماوية وهذه الأخلاق الفطرية إنما هي المبادئ الأساسية التي تنظم حياة البشر وعلاقاتهم ببعض .
استحالة وجود أخلاق بدون عقيدة
إن طبيعة الإنسان وتاريخه المديد تؤكد استحالة وجود أخلاق ومثل عليا بدون عقيدة راسخة ، وأن هذا النوع من الأخلاق الإيجابية البناءة لا تنشأ ولا تنمو من الفراغ ، فلا بد من وجود أساس مسبق وهذا الأساس هو الإيمان بوجود صانع لهذا الكون ، وأن كل إنسان مخلوق لهدف معين بوسائل معينة وأن مسئول عن حياته هذه ويواجه الحساب والجزاء والعقاب لكل قول وفعل خلال مدة بقائه في هذه الدنيا ، وأنها مزرعة الآخرة . وهذا الإيمان يحدث في قلبه الشعور بالمسئولية والجدية في الحياة ولا يضيع لحظاتها سدى . وإلى هذا الأساس يلفت كتاب الله نظر كل إنسان كائنا من كان : “أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون” . ثم يقول : “أيحسب الإنسان أن يترك سدى” .
وإذا استعد ذهن الإنسان لاتباع النظام الطبيعي في الحياة والذي يحقق له الاطمئنان والسعادة ، فينشد معرفة القيم والأخلاق التي ينال بها رضاء ربه ، ومحبة إخوته ونجاة آخرته . ومن هنا يقيم علاقة طيبة مع الجميع أساسها الوئام والنظام والعودة والسلام فلا يكون في حياته مجال للإباحية والفوضى ومتى تخلص الإنسان من الفكر الفوضوي والنظر الإباحي تستقيم حياته ويعيش هو وبنو جنسه جميعا في اطمئنان على مالهم وعرضهم وذويهم ، ويتذكر دائما هذه الحقيقة الفطرية التي أخفاها الفكر المعاصر المخادع وهي : أن الشخصية الإنسانية لا يمكن أن تعامل وكأنها جزء من الطبيعة الصماء ، وأن مشاكلها لا تحل آليا ، وأن مطالبها لا تتحقق تقنيا ! .