الخليج اليوم – قضايا إسلامية الثلاثاء 17-فبراير-1987 م
لا يخفى على من له إلمام بقدرة الخالق الباري تعالى وبصفاته العليا وإيمان بقيوميته ويقين بخالقيته وربوبيته المطلقة ، أنه يعلم كل الخلق ويعلم كل الخبايا لأنه يقول بشؤون خلقه كلها إيجادا وإمدادا وتربية ، ومن هذه المقدمات الإيمانية اليقينية يجب أن نعلم يقينا وإيمانا أيضا بأن الهداية أو التشريع أو التقنين الذي يأتي من البشر إنما يختلف اختلافا كليا عن هداية الله وتشريعه وتقنينه لأن الله الخالق البارئ المصور للإنسان في الرحم يعلم كل خباياه وأحواله وأطواره في جميع شؤونه في الدنيا الحاضرة والمستقبلة وفي الآخرة كذلك وتأتي هدايته وتشريعه للناس من دراية حاصرة وحكمة بالغة فلا يحتاج إلى تغيير لقانونه وأحكامه لأن ذلك القانون وتلك الأحكام جاءت عن بصيرة مهيمنه ودراية مستوعبة مع أن تقنين الإنسان يكون مبنيا على مرئياته التي توجد في عصر بذاته وبإدراك محدود للظروف والتطورات والبيئات وهو قاصر على إدراك للأشياء التي ستحدث بعد عشرات السنين أو المئات فيضطر بحكم الطبع إلى إعادة النظرة في ذلك التشريع وتغيير ذلك القانون ، لأن الأحداث التي تأتي بصورة ما كانت في بال المشرع في عصر تشريعه وما كان مطلعا على الغيب وحاصرا للأشياء والأحداث التي ستحدث في المستقبل القريب أو البعيد .
وقد أرشد القرآن الذي هو العطاء الإلهي لهداية الخلق إلى طريق الحق ةتمت بع الرسالة الإلهية في خدمة الهداية البشرية وبه اكتمل التشريع الرباني لتنظيم حياة الإنسان في جميع مرافقها ومجالاتها ، على بصيرة وبينة وفرقان ، إلى الفرق الدقيق الحقيقي بين علم الخالق وعلم المخلوق وبالتالي السر الكامن في نقطة الدوام في القوانين الربانية ونقطة القصور في القوانين البشرية فيقول القرآن : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد” (ق : 16) . ثم يقول : “ألا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون” (البقرة : 77) . ويقول كذلك :”الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم ما خلفهم ولا يحيطون بشيئ من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤذه حفظهما وهو العلي العظيم” (البقرة : 255) .
وإذا انتقلنا إلى علم المحيط بكل الغيبيات التي هي من أسرار الكائنات الأزلية إلى جانب الأسرار عن مصائر البشر في عالم البرزخ والدار الآخرة فنجد بثاقب عقولنا وحالص أفهامنا مهما كانت ناقصة وقاصرة أن علمه ومصالح الإنسان محيط بكل دقائقها وزواياها وخباياها وبعلم كل شيئ من أموره فهو يقنن له ويشرع من أجله وبعلمه المحيط ونظامه الفطري الذي فطر الناس عليه وجعله الخير كله في اتباعه وتطبيقه في حياته لأنه يعلم شره وجهره وخيره وشره فيقول : ألم يعلموا أن الله يعلم شرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب” (التوبة : 78) .
وينبغي لكل مؤمن أن يتبصر في شؤون بدء خلقه ومجيئه إلى حيز الوجود من بطن أمه لكي يعلم أنه لم يخلق صدفة أو كيفما شاء بل قد تم خلقه وتشكيله وتكييفه بتدبير دقيق وتصوير منسق ومنظم بهدف نبيل وبغاية سامية وبقدرة ذاتية للخالق الجبار لا شريك له ولا معين ولا نصير في تصويره وتشكيله وتنظيم شؤونه كلها ، وإلى هذه الحقيقة الكبرى والقضية العظيمة التي قد أصبح الإنسان عنها أعمى ، بقصور عقله ، ونقص وعيه ، وقلة فهمه ، يوقظ القرآن قلب كل إنسان ذي عقل وإيمان : “إن الله لا يخفى عليه شيئ في الأرض ولا في السماء ، هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم” (آل عمران : 6) . وأن التصوير في الرحم هو إيجاد المادة التي يخلق منها الإنسان على هيئة خاصة وهذه الهيئة تختلف في عدة أنواع وجهات ، ذكورة وأنوثة وعوعية ولونا، وكل ذلك بدقة فائقة بحيث أن كل مولود لا يخرج إلى الدنيا بشكل واحد وبلون واحد ، ومع هذه الوحدة في المادة والوحدة في الخالق والوحدة في الكيفية يخرج بلايين الناس من بطون أمهاتهم في صور وألوان وأشكال متغايره ومتفاوتة لا يصعب التمييز بين كل فرد منهم بدون التباس واشتباه وهذا هو تقدير العزيز الخبير هو الذي يعلم علم اليقين المهيمن ، مصالح عباده الذين هم من صنع يده وبقدرته الذاتية ولا حق لأحد غيره وضع القوانين والتشريعات إلى تنظيم شؤون مخلوقاته بل ولا يستطيع أحد إحاطة الأشياء التي تحدث في الكون والكائنات حينا بعد حين وما كان في استطاعة البشر إلا التطلع إلى التقنين الإلهي القائم على علم الله الحاصر لكل ما حدث وكل ما يحدث في كل عصرر ومصر ، ويعلن بكل جلاء ووضوح : “ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون” (المائدة : 50) .