الدعوة – 15-يونيو-1982 م – دلهي – الهند
(11) التقريب بين الأمم والشعوب .
لقد بدأت الأمم والشعوب إليهم تتقارب وتتعاون ويحاول بعض الساسة والقادة والزعماء في أنحاء العالم لإزالة الحواجز الوهمية الجغرافية والسياسة التي أقامتها الأطماع والأهواء بعد أن تكفلت الحضارة الحديثة والاكتشافات الجديدة بإزالة هذه الحواجز الطبيعية أيضا من بحار وأنهار وجبال وصحارى أما الحواجز السياسة فحدود وهمية وكذلك الفروق الاعتبارية من جنسية ولونية ولغوية وثقافية وغيرها فنحن المسلمين .
نتفق مع هؤلاء الزعماء كل الإتقان ونتعاون معهم كل التعاون للوصول بالأمم إلى حياة ناعمة في ظلال الأمن والسلام بل ولا يسع كل محب للسلام والطمأنينة في العالم إلا أن يبارك هذه الجهود ويبذل من نفسه ونفيسه ما يفضي إلى هذه الغاية كما لا يسع كل منصف ألا أن يقدر لهؤلاء جهودهم فيها ولكن نرى يوما بعد يوم عراقيل في طريق هذا الهدف وموانع في سبيل هذه الغاية فالتقدم بطئ جدا والطريق وعر الهدف بعيد بل يظن كثير من الناس أنهم لن يبلغوا الهدف المذكور وأن سعيهم في هذا السبيل سوف يبوء بالفشل فإذا نظرنا بعين التحقيق والإنصاف وأزلنا الغشاوة عن الأبصار نجد أن العلة الوحيدة في جمود التقدم في هذا الميدان والفشل في هذاا السعي ترجع إلى عاملين اثنين لا ثالث لهما ، هما : انعدام الإخلاص وضعف النية في التطبيق العمليمن القائمين على هذه الدعوة فالإخلاص والتطبيق من أبرز العناصر لنجاح الدعوات والبلوغ إلى الأهداف .
إن الشاهد التاريخي على ما نقول والدليل المادي لدعوانا هو الداعي الإسلامي الكبير والمصلح الإنساني الفذ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فقد كان مثلا أعلى في صدق عزيمته والإخلاص في دعوته فأصاب هدفه وبلغ غايته خلال مدة قصيرة وربط بين قبائل والشعوب بروابط وخلق منها وهي المتخاذلة المتحاربة أمة متماسكة الأجزاء وثيقة البنيان موحدة المقاصد بعد أن كانت متفرقة إلى شيع وأحزاب وغدا المسلم الهندي أخا للمسلم المصري ، والأوربي أخا للمسلم الحبشي والروسي أخا للأمريكي أخوة صادقة عميقة لا تشويها مظاهر النفاق والرياء ووضع النبي صلى الله عليه وسلم نظاما رائعا في جملته وتفصيله وسن للأفراد والجماعات حقوقا وواجبات على أساس من العمل والمساواة والتعاطف والتعاون وعلى أساس من الرضاء والقناعة واحترام حقوق الغير فألغى الفوارق بين الطبقات أمام القانون وحرم التنابز بالعصبيات والتباهي بالأنساب وأوصى بالمرأة والضعيف والفقير والمسكين واللهيف وحرم الحسوبية وحذر من سوء الظن والتجسس وتتبع العورات والحاق أن أذى بإنسان أو حيوان من غير حق يخوله الدستور الإلهي لإقرار الأمن والطمأنينة في المجتمع البشري ، ومن الأسس القرآنية والنبوية للتقريب بين الشعوب والأمم مهما اختلفت الحواجز الطبيعية والفوارق الوهمية بينها قول الله تعالى : إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم” ” وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان” ، “يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس لاسم الفسوق بعد الإيمان فمن لم يتب فأولئك هم الظالمون” ، “يأ أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ” .
ويقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم : الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى” ، “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” ، المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدنا هم وهم يد على من سواهم .
“كل المؤمن على المؤمن حرام دمه وماله وعرضه” ، وكانت أفعاله عليه السلام تطبيقا عمليا لأقواله وتعاليمه فإذا دعا إلى الشورى ضرب المثل بنفسه فقد كان يستشير أصحابه في شؤون الدولة والأمة ، ونز مرات على رأيهم حيث بدا له وجه الخير فيها وإذا دعا إلى المساواة كان كذلك روى عنه أنه أقبل على جماعة يوما فقاموا له إجلالا فقال : “لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا إنما أنا عبد الله آكل ما يأكل العبد وأجلس كما يجلس ، وإذا دعا إلى التعاون فهو في تعاونه المثل الأعلى كان يوما في سفر فأمر أصحابه بإصلاح شاة فقال رجل : على ذبحها ، وقال ثان : على سلخها وقال ثالث : على طبخها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جمع الحطب فقالوا يا رسول الله تكفيك العمل فقال : علمت أنكم تكفونني ، إياه ولكنني أكره أن أتميز عليكم .
وإذا دعا إلى العدل صدق فعله قوله فهو قائل ، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها .
وقد نهج خلفاؤه الراشدون و أمراؤهم وحكامهم هذا النهج النبوي القويم فخطب أبو بكر الخليفة الأول رضي الله عنه أثر مبايعته بالخلافة : أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني ، الضعيف فيكم قوي عندي حتى أخذ الحق له والقوي فيكم ضعيف عندي حتى أخذ الحق منه ، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم .
وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يتفقد أحوال رعيته ليلا على أداء واجبه نحوها وجهز عثمان ثلث الجيش من ماله في غزوة العسرة حين دعت مصلحة الأمة إلى البذل والتضحية وكذلك على كرم الله وجهه كان إماما يسهر على صالح الرعية ورفاهيتها ومخلصا وصادقا في أفعاله وسياسته ، وبهذا الأسلوب من الإخلاص وصدق النية في الدعوة والقول والتطبيق العملي لمبادئ الدعوة نجح محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه في التقريب بين الشعوب والتضامن بين الأفراد والجماعات وكان نجاحه مثلا تاريخا فذا وكان موضع الدهشة عند المؤرخين العرب والأوربيين على سواء وما نجحت دعوتهم إلا لأنها قامت على أساس من الإخلاص والتطبيق العملي لمبادئها .