الدعوة – 15-أغسطس-1980 م – دلهي – الهند
( 3 ) نظرة الإسلام إلى الحياة الدنيا
إن الله سبحانه وتعالى لم يترك الإنسان لأحلام اليقظة تلعب بعقله وتعبث بفؤاده وتتصرف في خياله كما تشاء ، بل أقام له من عالم الإدراك دلائل قاطعة على أن الحياة الدنيا وشيكة الزوال ، سريعة الانتهاء مطلية بالغرور ، مملوءة بالمحن ، ويصف القرآن الحكيم حقيقة الحياة الدنيا ويصورهما فيقول :”واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا” (الكهف : 45) .
فليشس في استطاعة أي بليغ ماهر أو أي مصور مبدع أو كاتب بارع مهما أوتي من قدرة الإيجاد والدقة في التعبير أن يحيط بوصف الحياة الدنيا في غرورها الخلاب وسرابها البراق و نفاقها المكشوف بأدق من هذه الآية الكريمة ، فإنها لا تكتفي بذكر الماء يخالط الأرض فيوقظ فيها النبت إلى النماء والخضرة والازدهار والترعرع والأثمار والقطاف والحصاد ، دون أن تجعل من ذلك رواية تمثيلية واقعية يقبل عليها المتفرجون بشغف وشوق ثم ينتهون إلى إسدال الستار على نهاية لازمة ومصير محتوم ، وإذا أخلدنا إلى خلوتنا وانقطعنا إلة رويتنا لم يلبث ذلك الاتعاظ أن يتبخر في رؤسنا ، وأن هذا المقدار من الفهم والإدراك يستوي فيه المؤمن والملحد والعالم والجاهل العاقل .
ورسالة الإنسان في هذه الحياة في نظر الإسلام هي الإصلاح الذي تعود فائدته عليه وعلى الناس في حدود العمران والنهوض والتقدم والرقي مع كبح ما عساه أن يكون من طغيان الغرائز وطيش المطامع ، وثورة الشهوة ، ولكن مع التقوى والإحسان والإيثار والأخوة والمحبة ، لتنطفئ فيه تلك الحدة التي تدفعه إلى الافتتان بهذا الزخرف الكاذب ، والمتع الخادعة والظلال السريعة الانتقال ، فكيف عن الشرور والآثام والتكالب والطمع في حطام الدنيا البراق ، وما تثيره الأفراد والجماعات في هذا السبيل من خصومات ظالمة وحروب جائرة حتى جعلت هذه الدنيا مسرحا من مسارح الجحيم تمثل عليه فصول العدوان ومناظر الدمار وإشباح الخراب والهلاك .
وربما يقول قائل : إن تصارع الدول وتنافسها هما يحفظان التوازن الدولي ، ويركن أحيانا إلى السنة الإلهية في الأرض ، ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ، ولكن هذه السنة تهدف إلى الإصلاح والعمران والحب في الخير وإقرار الأمن والسلام ، وأما الحالة القائمة الآن في العالم فإن الدول الكبرى كلها مدفوعة إلى هذا التصارع وذلك التنافس بباعث التوسع في السلطان والاستزادة في استعمار البلدان واستغلال الشعوب الضعيفة فشتات بين الهدفين .
وإن الطبائع والغرائز التي أودع الله تعالى في الإنسان يجب أن تصرف إلى نشدان “المثل العليا” بحيث لا يذل الفرد للفرد ، ولا يخضع الإنسان لأخيه الإنسان خضوع الاستكانة وينقاد له انقياد العبودية ، وهذه النظرة الواقعية إلى حقيقة الحياة الدنيا تبعد الإنسان العاقل المتبصر عن الحرص على الترامي على أعتابها ، التعلق بأذيالها ، التكالب عليها ، والتفاني في سبيل حطاما الفاني .
دعائم العزة :
يدعو الإسلام إلى العلم أو البحث والنظر في ملكوت السماوات والأرض ، ومن أول ما دعا إليه : السعي والعمل والجهاد في الحياة والقوة والعزة ، ومن أول ما نهى عنه ، القعود والتواكل والذلة ، وقد قرر القرآن أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، فإن من الحقيقة البيضاء أن الإسلام دين الحياتين ، الأولى والآخرة ، وأنه كفل للإنسانية دعائم العزة كلها ، وأن من أهم دعائم العزة ، العلم والقوة والثراء .
وكل من يتهم الإسلام بأنه عقبة في سبيل العلم أو الرقي أو القوة أو العزة فهو لا يعرف حقيقة الإسلام ولا تاريخ المسلمين القدامى حقا ، ومثل الذين يتهمونه بأنه لا يساير التطورات العالمية والصالح العامة ولا يطلق الحريات للعقول والأيدي كمثل من يقدح في عدالة القانون يسوء فهم القاضي له أو يجوره في تطبيقه ، وكالقدح في جودة البذر بأن الزارع يهمله أولا يحسن زرعه فأما السبب الوحيد لكل هذه الاتهامات وهذا الفهم السيء للإسلام ، فإن المتهمين أو الناقدين لم يعرفوا حقيقته ، وتأثروا بما عليه المسلمون ، فهم رأوا في أكثر المسلمين جمودا وجهلا وضعفا وفقرا فحسبوا أن منشأ هذا كله إسلامهم ، مع أن الإسلام بريئ من كل هذا وذاك ، والحق أن منشأ هذا ، أما جهلهم بالإسلام أو خروجهم عن حدوده ، لأننا نجد براهين ساطعة من نصوص الإسلام ومن مبادئه وأحكامه ومن تاريخه ووقائعه ، على أنه حفز إلى العلم والنظر والبحث ، وحث العقول على التفكير والتدبر والاختراع والاكتشاف ، ومن يمعن النظر في آيات القرآن والآحاد يبث النبوية يؤمن حق الإيمان بأن الذين يتهمونه بجمود المسلمين ليسوا على شيء من الحق ، ففي القرآن آيات كثيرة إشارة إلى سنن كونية ونظريات طبيعية قررتها النظريات الحديثة في الخلق وبدأ الحياة والفلك والإجرام كل هذا دليل قاطع كالشمس على أن الإسلام لا ينافي العلم والمدنية ولا يناقضهما ، ومما يؤخذ أيضا على متهمي الإسلام وناقديه وعلى بعض المنتقين إليه ، وقوفهم عند الألفاظ والحروف لبعض النصوص وإهمالهم روح النصوص ومعقولها والغاية المنشودة منها والأسباب التي جاءت لأجلها تلك النصوص والأوامر ، وكذلك لا يخفى على من يتبصر في تعاليمه ويمعن النظر فيها في الإسلام هو الإصلاح الأكبر والعون المبين لمصالح الإنسانية كلها حيث يحقق أسباب العزة والسعادة في الحياتين الدنيا والآخرة .