الخليج اليوم – قضايا إسلامية – الأحد 15-يونيو-1986 م
من الثابت تاريخيا وحضاريا أن القرآن الكريم نزل أول ما نزل في أمة بعيدة عن المباحث الفكرية والعقلية والنظريات الكونية والطبيعية ، وكانت قلوب تلك الأمة قد ملكتها أساطير الآباء الأولين ، وبعض التقاليد والأوهام المتوارثة جيلا بعد جيل ، وأن القرآن الكريم بنفسه يشير إلى هذه الحقيقة فقال : “هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياتهم ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين” (الجمعة) .
المهمة الأولى لرسالة الإسلام
كانت المهمة الأولى للقرآن تحرير العقول البشرية من رق التقليد الأعمى وعبودية الأساطير والأوهام والخرافات وإنهاضها وحثها في سبيل التفكير والنظر في ملكوت السماوات والأرض واعتبار الدروس منها ، فحفز النفوس البشرية لتقرأ صحف الطبيعة وتتدبر الآيات التي أودعها الله تعالى فيها ، وبفضل مساعي القرآن بدأ عهد “البحث والنظر” في الأمة العربية وتحررت من قيود الجمود والحجر الفكري على العقول ، واستنارت العقول فوطنت إلى علوم الكون والحكمة وكان رائدها في ذلك التحول العظيم القرآن وإرشاد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم فهو الذي قال : “الحكمة ضالة المؤمن” فصار لأهل القرآن السبق الأول والفضل الأكبر في كل مضمار من مجالات العلم والفكر وفي كل شعبة من شعب الحياة المستنيرة والمستبصرة حتى عقدت لهم قيادة البحث العلمي والكشف الحضاري والتقدم الفكري في الآداب والسياسة والفنون والصناعة والزراعة والهندسة والطبيعة وغيرها .
جنود الإيمان والعلم
إن المهتمين بدراسة تاريخ الإسلام الحضاري والفكري والعلمي يدركون أن طليعة الأمة الإسلامية منذ عهد النبوة وفيما يلي ، كانت في الحقيقة والواقع العلمي ، جنود الإيمان وجنود العلم لأنهم كانوا يبلغون رسالة الدين الإسلامي وينشرون تعاليمها الخالدة من عقيدة وعبادة وشريعة بين الناس ، وفي الوقت نفسه كانوا يرفعون أعلام العلوم والمعرفة إذ كانوا يشجعون الناس على طلب العلم وتدوينه وتطويره وكان رائدهم في ذلك قول إمامهم الأكرم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : “طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة” ، كما روى عنه أيضا : “اطلبوا العلم ولو بالصين” ، وفي ضوء تلك الإرشادات الخالدة كانوا يحصلون العلوم ويدونون فيها ويضعون القواعد ويرسونها لأقوى نهضة علمية فكرية عرفها تاريخ البشر حتى ذلك العصر .
وجدير بالذكر في هذه المناسبة أن السر الكامن وراء هذه النهضة العلمية والوثبة الفكرية بين طليعة الأمة الإسلامية إنما هو أن الإسلام دين إيمان وعلم ، وفكر وحضارة كما أنه يجمع بين الحماس الروحي والإخلاص السلوكي ، وهو يخاطب العقل ويقبل الاجتهاد والرأي السديد ، وبفضل تلك الدفعة القرآنية كانت العلوم العربية والإسلامية كلها أو جلها قد دونت وضعت أصولها وقواعدها قبل القرن الثاني الهجري ، وبينما كان جنود العلم والفكر يفتحون القلوب ويثقفون العقول كان جنود الفتوحات يفتحون البلاد أمام دعوة الحق والإيمان ، وهاتان الحركتان تسيران قدما جنبا إلى جنب حيث تسبق حواجز الزمن لكي تصل إلى مدارج الكمال ، ويتبين من هذه الجولة السريعة الخاطفة أن مدى حياة تلك العلوم وبقائها بين الأمة الإسلامية أو الأمة القرآنية – بغير تعبير – كان مرتبطا بمبلغ تفهم هذه الأمة مبادئ هذا الكتاب الحكيم وتمسكها بإرشاداته القويمة وتطبيقها في حياتها العلمية والعملية .
من أسباب تخلف المسلمين
كانت الأمة الإسلامية تمسك بزمام القيادة والزعامة في مجالات العلوم والحضارات والمعارف والاكتشافات مادامت تتمسك بتعاليم وإرشادات القرآن الذي جاء من رب البشر هدى ونورا وكتابا مبينا لكل شيئ في الكون ، ليعيض أمته على بصيرة وبينة وهداية وسعادة ولما تخلفت هذه الأمة قليلا عن رحاب ذلك الكتاب الهادي البشير النذير ، بدأت تنحاز إلى ركب الحضارات البالية أو المدنيات الدخيلة فابتعدت الأمة القرآنية عن أصالتها وبالتالي عن قواعدها وذخائرها العلمية والحضارية وأصبحت تتهافت على فتات الموائد الأخرى ، ولعبت مكائد والاعيب أعداء الإسلام ، من كل الجهات والفئات دورا هاما في تصريف أمة القرآن عن ينابيع حضارتها ، وتشغيل عقولها وأفكارها فيما لا يعنيها من أفكار وشؤون ؟ ..