الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 15-يناير-1987
لقد أشرنا في دراسة الأسبوع الماضي إلى “الثالوث المسؤول” عم محنة العالم العربي الإسلامي في هذه الأيام ، ومخاطره المحدقة بالأمة الإسلامية منذ القرون ، ومظاهر ذلك الثالوث المتمثل في الحركات الصهيونية والمؤامرات الاستعمارية والخلافات الداخلية من مأساة الفردوس المفقود إلى مغبة القدس المسلوب وقطع الأوصال وسفك الدماء بين أبناء هذه الأمة ، وتهدف دراسة اليوم إلى لفت قلوب أولى الألباب والأبصار ، إلى بعض السبل اللازم أتباعها في هذه الظروف التاريخية ، بتصحيح وضع الأمة على أسس قويمة .
إن الأمة الإسلامية لا يخشى عليها من الزوال والاضمحلال مهما تكالبت العواصف العدائية والتآمرية ضدها ، كما حصل لعديد من الأمم الأخرى في مثل هذه الظروف الطاحنة الطاعنة في الأعماق والجذور ، وأن أسس التضامن وضوابط التعاون لا تزال قائمة ، على الرغم من عدة عوامل وبواعث للتفرق والتمزق ، بثها ونصبها المتربصون من أعداء هذه الأمة بشتى المكائد والألاعيب لتحقيق أغراضهم الخبيثة ، وأن المطلوب من العرب والمسلمين اليوم أن يعملوا ثلاثة أمور بجدية وبصيرة وهمة وبوعي وإدراك بخطورة الأوضاع الراهنة في صفوفهم ، والصراعات العديدة الجارية في أنحاء العالم المعاصر ، وبالانتباه إلى الدور الهام الذي ينبغي أن يلعبوه في هذه الآونة وفي هذه الظروف لإثبات وجودهم ، وتوطيد كيانهم وإنقاذ حضارتهم ورسالتهم من براثن الجهل والفوضى ، ومن مخالب التخلف والانحطاط ، وهذه هي الأمور الثلاثة المطلوب تنفيذها قورا :
– النظر بهدوء وجدية وإمعان إلى مسؤولية أمة الإسلام تجاه رسالتهم الحضارية الكبرى بوصفهم حاملي أفضل الرسالات وأسماها وحماة المقدسات الإسلامية وطليعة الدعاة إلى الله تعالى ، وهداة البشر إلى الطريق المستقيم ، وأن هذا الإحساس بالمسؤولية والشعور بالأمانة الملقاة على عاتقهم كافيا ليوقظ ضمائرهم وليفتح قلوبهم وليزيل الغشاوة عن أبصارهم فيعيدون النظر في أوضاعهم المشينة الحزينة .
– التنبه لى مكائد وألاعيب أعداء الأمة الإسلامية لتبديد طاقاتها وتفتيت أوصالها وتفريق شملها ونهب ثرواتها وامتصاص دمائها وغصب مصادرها الطبيعية والتحكم في مصائرها كلها ، وأن هذا التنبه يلفت أنظار أبناء الإسلام في كل مكان إلى النتائج والآثار المترتبة على تلك المكائد والأحابيل التي نصبها أولئك المتبرصون في ساحات هذه الأمة وينتبه العرب والمسلمون إلى شراسة المعركة التي يخوضونها اليوم مع القوى المعادية الخفية والجلية في داخل صفوفهم خارجها ، غفلة وجهالة أو سفاهة أو مكيدة من الأعداء الدهماء .
– الرجوع إلى الأخذ بأسباب القوة المادية والمعنوية ووسائل العزة والكرامة من مصادرها ومنابعها الأصلية كما فعل أسلافهم النجباء وأوائلهم العظماء الذين صاروا بذلك الأخذ الصحيح من المنبع الفسيح “خير أمة أخرجت للناس” ، وبفضل تلك الأسباب وحدها قد تحولوا من ضلال مبين إلى فتح مبين ، وتغيروا من حالة الجاهلية العمياء إلى حالة الحضارة الفيحاء .
إنما يصلح آخر هذه الأمة صلح به أولها
لقد قال الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم هاديا ومرشدا لأمته بجوامع الكلم : لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها” ، وقد جمع الإسلام القبائل المتناثرة والعشائر المتناصرة والفئات المتحاربة لأدنى الأسباب ولأتفه الأمور تحت راية التوحيد ، توحيد الكلمة ، وتوحيد الغاية ، وتوحيد الوسيلة وتوحيد أهداف العقيدة وتوحيد أسس ومظاهر العبادات ثم اختار لهم شعارا رائعا لينضووا تحت رايته متكاتفين ومتعاونين ومتحابين ومتراصين وهو شعار : “إنما المؤمنون إخوة” .
وأن نطق كلمة التوحيد مع وعي فحواها ومغزاها ، قد أحدث في قلوبهم تحولا عاما وشاملا وتفاعلت تلك القلوب مع جميع أجزاء أجسامهم ، وأن هذا الانتماء الإيماني والانتساب العقدي قد أذاب الفوارق الفكرية والنظرية الأخرى الهامشية والجانبية لأنهم قد أيقنوا أن الكائنات كلها لها إله واحد ورب واحد ورازق واحد ، وفي يده وحده مصير الجميع فلا فرق بين إنسان وأخيه الإنسان إلا بتقوى الله وصالح الأعمال .
وقد نقل الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم القرآني لوحدة الكلمة المنبثقة من كلمة التوحيد ، إلى حيز التطبيق العملي الواضح ، تحت شعار إنما المؤمنون إخوة ، وطبق نفس النظام في العبادات كلها ، سواء في الصلوات الخمس يوميا ، وصلاة الجمعة أسبوعيا ، والعيدين سنويا وكذلك في مظاهر الصيام حيث يدؤون الصيام ويفطرونه ويتناولون ويؤدون العبادات من الصلوات والتلاوة الصدقات بنظام واحد وبهدف واحد ، وكذلك مناسك الحج ، حيث يطوفون بيتا واحدا في زي واحد ، وبهدف واحد وبشعار واحد ويمارس الجميع المناسك والشعائر بأعمال واحدة وكل هذا وذاك قد كرس معنى وحدة الأهداف والأماني من الحياة الدنيا والحياة الأخرى ، بين أبناء الإسلام جميعا على الرغم من اختلاف الأشكال والألوان واللغات والجنسيات ، وبعد ترسيخ وحدة العقيدة ووحدة العبادات أكد الإسلام وحدة التصور ووحدة الفكر ، وأن مصادر الأفكار والتصورات والوسائل والغايات والآمال والأمنيات بين المسلمين جميعا قائمة على دعائم التوحيد من حيث المصدر أي الخالق المطلق ومن حيث المنتهى أي نيل رضاه في الدارين ، وبهذه الوحدة الفكرية والنظرية قد أرسى الإسلام أركان وحدة الصفوف وأخوة الإيمان في أمة الإسلام وصاروا أمة متحدة ومتحابة ومتعاونة كالجسد الواحد في الآلام والآمال .
مصدر العزة والكرامة
ومن مفارقات الأمور وسخريات التاريخ أن يبحث شخص أو أناس عن شيء منشود أو يطلب شيئا مرغوبا في غير مكانة ومن غير أهله ، وفي مقدمة الأماني التي يهدف كل إنسان أن ينالها وتسعى كل أمة لتحقيقها : العزة الكرامة في الحياة فكما لكل شيء منبع خاص ينبعث منه أو يصدر عنه يوجد مصدر طبيعي ومنبع أصلي لخصلة العزة وصفة الكرامة ، وأما العزة الحقيقية فينبغي أن يطلبها الراغب فيها من مانحها ومالكها فقد صرح القرآن الكريم أن مصدر العزة الحقيقية إنما هو رب العزة ورسوله الأمين وعباده الذين اصطفاهم ليتقلدوا ذلك الوسام الشريف إذ يقول : “أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا” (النساء : 139) ثم يقول : “ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون” (المنافقون : 8) .
وهكذا قد عين وبين خالق السماوات والأرض ورب العالمين مكمن العزة ، فكيف يفلح أناس يطلبون العزة في غير مكانها وينشدونها من غير أهلها ؟ وأما بالنسبة إلى الكرامة فقد أعلن الرب مالك الكرامة ومانحها لعباده المستحقين ، أن الكرامة صفة تكتسب وتتحقق بسعي وجد وثبات وليست هي مبثوثة أو منثورة بلا ضابط وبلا نظام فقال في محكم كتابه : “إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير” (الحجرات : 13)، وتبين من هذا الإرشاد الإلهي أن الكرامة خصلة يحققها الأفراد أو الجماعات بوسيلة التقوى مصطلح إسلامي جامع وشامل لمعاني كثيرة ومفاهيم عديدة ويصلح ذلك المصطلح لأفكار ونظريات كثيرة وملخصها في نور المفاهيم اللغوية والاعتبارات الشرعية الفطرية ، أن التقوى المراد هنا إنما هو اتباع نظام الرشاد في مرافق الحياة واجتناب نظام الفساد في أي مرفق منها ، وبعبارة أدق أن الكرامة ناتجة من الأعمال الصالحة بكل المعايير وأن طلب الكرامة من أوساط القمامة المليئة منن الرذائل والقبائح ، من قبيل طلب الماء من سراب يحسبه الظمآن ماء .
ومن أكبر الموبقات التي أودت المسلمين إلى هاوية الفرقة والطرفة والشدة والعنفة ، الاحتكام إلى العاطفة والحمية الجاهلية في المسائل الحيوية والأمور المصيرية مع أن قانون الطبيعة يقتضي وقانون العقل ينبغي وقانون الإسلام يحتم أن يكون الرجوع والاحتكام في أمور المسلمين إلى العقل السليم والفهم الصحيح لإرشاد رب العالمين وبيان رسله الأمين وإلى نصوص كتابه الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فيقول رب العزة :”وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله” (الأنعام : 153) ، ثم قال :”فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير لكم وأحسن تأويلا” (النساء : 59) ، ثم أرشد الناس إلى الطريق القويم في حل الاختلافات الجانبية والهامشية فقال : ” وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب” (المائدة : 2) ، وقال في نفس السورة :” يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شأآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون” (المائدة : 8) .
وأما المنهاج الإسلامي الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم لحل الخلافات بين المسلمين في ضوء الإرشادات الإلهية فإنما هو التناصح والتشاور والتفاهم والتنازل بعزة الحق وقد نهى بأقوى العبارات وأوضحها خصلة الالتجاء إلى عزة الإثم وشدة الرأي فقال : “الدين النصيحة ، قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : “لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم” (رواه مسلم) . وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال : “بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكم مسلم” (متفق عليه) ، وأن طريقة المناصحة الصحيحة فقد بينها الرسول عليه السلام بجوامع كلم إذ قال : “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ا يحب لنفسه” (متفق عليه) ، فإذا أراد مؤمن أن يتنازل أخوه على رأيه فيقتضي إيمانه أن يفعل كذلك في حق أخيه المؤمن !.
ويجب أن يضع العالم العربي الإسلامي ، في هذه الظروف لطاحنة والطاعنة في متاهات وترهات لا أول لها ولا آخر يمينا ولا شمالا ، وأماما وخلفا ، والأشواك في كل ناحية والأسلاك في كل نافذة والهوة السحيقة في كل جهة ، أن أعظم وسيلة في مجال توحيد المنطلقات الفكرية والاتجاهات أو الصراعات النظرية بين أجزاء أو أوصال الأمة الإسلامية ، هو الانتباه ثم النظر ثم العمل ، تجاه الارتباط الوثيق بين وحدة المصير وبين مصير الوحدة أي بمعنى أدقف وأحق أن تقرير مصيرهم قائم على وحدتهم بعز عزيز أو ذل ذليل – كما أشار إليه الرسول الكريم – كما أن وحدتهم قائمة على مصيرهم فشلا أو نصرا ، وينبغي أن يعاد إلى أذهان المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أنهم أعظم الأمم رسالة وحضارة فتكون نكستهم أعظم أيضا من حيث النتائج والآثار المترتبة عليها وفي التاريخ لعبرة لأولي الألباب .