الخليج اليوم – قضايا إسلامية – الأحد 20-يوليو-1986 م
النصوص القرآنية والأحاديث النبوية بصراحة ووضوح إلى أن مفهوم العبادة والقربى إلى الله عز وجل لا يقتصر على بعض الفرائض والواجبات البدنية والمالية فقط مثل الصلاة والزكاة والصوم والحج ، وأن الحقيقة الكبرى التي امتاز بها الإسلام عن الديانات والعقائد والمذاهب الأخرى ، هي أن الدين الإسلامي ليس مقصورا على بعض الشعائر والعبادات والفرائض المحدودة ويكون مدارها الجانب الروحي من الإنسان ، وبصرف النظر عن مناحي الحياة وشؤونها العديدة وأن القرآن الكريم إنما هو دستور إلهي خالص لشؤون الدنيا والآخرة ، وللأمور الروحية والمادية للإنسان وهو أيضا دستور تقويم الحية الفطرية للجنس البشري ، ولعمارة الأرض وصناعة التقدم ، وقد اجتبى الله تعالى الإنسان ليكون خليفته في الأرض ، كما أشار القرآن بقوله :”وإذا قال ربك للملائكو إني جاعل في الأرض خليفة” (البقرة : 30) وبقوله : “يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى” (ص : 62) ، وقال تعالى في نفس السورة : “أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالنجار” (ص : 28) .
وعندما يربط القرآن بين الخلق وعمارة الأرض ويلفت الأنظار إلى أن الله تعالى قد سخر الكون للإنسان ويدعوه لأن يمشي في مناكب الأرض ويأكلوا من رزقه فإنما هذه إشارات كلها صريحة في أن مفهوم العبادة في قوله تعالى : “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” (الذاريات : 56) ، إنما هو أعم من التصور الشائع لدى المتأخرين من بعض علماء الإسلام وفقهاء الأمة حيث اقتصروها على الصلاة والزكاة والصوم والحج من أن الفقه الإسلامي المدون في كتب علمائه قد قسم إلى أربعة أقسام : العبادات والمناكحات والمعاملات والجنايات ، ومما يافت الأنظار ويبعث على الاستغراب أن هذه الأقسام الثلاثة الأخيرة مع كونها جزء لا يتجزأ من الفقه الإسلامي ومن صميم التعاليم الإسلامية من القرآن والسنة وإجماع الأمة ، ومن أحكام الله تعالى ورسوله ، لا يطلق عليها اصطلاح “العبادات” ولا تندرج تحت قسم أو باب “العبادات” كأن أحكامها خارجة عن دائرة العبادات وان العمل بها لا يوضع في مصاف العبادات التي يثاب على العمل بها ويعاقب على تركها .
أثر الخلل في مفهوم العبادة في تقدم المسلمين
منذ ان تسرب الخلل إلى مفهوم العبادة وأصبحت مقصورة على بعض الفرائض والشعائر فقط وانفصل مفهومها عن مناحي الحياة العامة للإنسان المسلم وشؤونه في سائر مرافق الحياة افتقد المسلمون مصدرا هاما وباعثا حيا وعاملا أساسيا للقوة والفاعلية والنشاط والهمة في صناعة الواقع وصياغة الحياة وإحراز التقدم حضاريا وعمليا وصناعيا وتجاريا وسياسيا في أفضل صورة حتى يكونوا “خير أمة أخرجت للناس” ، وإنما أراد الإسلام الخيرية العامة المطلقة الشاملة لمجالات الحياة كلها وما هو دور المسلمين اليوم في هذه الخيرية ؟ وفي أي مجال لهم الحق لادعاء الخيرية ؟ .
وقد جعل الإسلام العمل لتحقيق المصالح العامة فرض كفاية على الأمة ، مثل الهندسة والطب والقضاء والتدريس التصنيع والزراعة وما إلى ذلك من مقومات تقدم الأمة ونهضتهم العامة فهي فروض كفاية فإذا قام بها نفر من المسلمين ، نيابة عن الآخرين ، تبرأ ذمة الجميع وإلا أثم الجميع على التخلي عن هذا الفرض الكفائي الجماعي ، لأنه بمقدور كل شخص أن يصبح طبيبا أو مهندسا أو صناعيا أو مزارعا أو قاضيا ، ولكن إذا تمكن شخص القيام بجميع مستلزماته ومقتضياته حسب التعاليم الإسلامية ولمصلحة الأمة فرض عين عليه شخصيا مثل الصلاة والصوم وغيرها بمعنى أنه صار بعد أن تولى مهمة القيام بهذا الفرض الكفائي قد أصبح مسئولا عند الله وأن أي خرق لواجباته مخالفة لأوامر الله تعالى واعتداء على حقوق المسلمين وخيانة للأمانة الملقاة على عاتقه .
مفهوم العبادة يسع الحياة كلها
إذا تدبر العاقل الإرشادات القرآنية والسنة النبوية وسيرة السلف يرى أن العبادة مفهوم يسع جميع مجالات حياة الإنسان المسلم وشؤونه كلها ، فقال تعالى : “فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره” (الزلزلة : 7) وقال أيضا : “وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم” (البقرة : 21) . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس : تعدل بين الاثنين صدقة ، وتميط الرجل في دأبته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة ، والكلمة الطيبة صدقة ، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة ، وتميط الأذى عن الطريق صدقة ” (متفق عليه) ، وقال عليه الصلاة والسلام : “ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة وما سرق منه له صدقة ، ولا يرزؤه (ينقصه) أحد إلا كان له صدقة” وفي رواية أخرى : “لا يغرس مسلم غرسا ولا يزرع زرعا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة” (مسلم) ، وقال أيضا : “إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها ” (رواه مسلم) .
وينبغي لكل مسلم أن ينظر إلى هذين الحديثين الشريفين لهادي الأمة أولا قوله : “الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان” (متق عليه) ، وثانيا قوله عليه الصلاة والسلام : “لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق” (رواه مسلم) .
فلما الانتقاص والاختزال من مفهوم العبادة ؟ ولماذا اقتصار “التدين” على بعض الفرائض والشعائر فقط ؟ .