الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 25-يونيو-1987 م
من الحقائق الثابتة في هذا العصر الحديث ، بكل الوثائق النظرية والفكرية وبجميع الوسائل العلمية والعملية أن الإعلام بصفة عامة ، مع وسائله العديدة السمعية والبصرية والمكتوبة والمقروءة ، قد أصبح من أخطر وسائل التأثير في العالم الحاضر ، وأن الحروب الإعلامية والمعارك الدعائية تسبق كل الغزوات العسكرية والاقتصادية بل ويترك الإعلام أثرا خطيرا في تحويل مجريات الأمور وتقرير مصائر الشعوب ، ومن تلك الحقائق الثابتة المشهودة أيضا أن العالم الإسلامي اليوم يعيش بين فكي كماشة الحصار الإعلامي الغربي فلا نجاة له إلا لفك هذا الحصار المحكم .
الإعلام لغة واصطلاحا
الإعلام لغة : إيصال العلم إلى الناس واطلاعهم على الأخبار ، واصطلاحا : فن إيصال الأخبار والأفكار بالوسائل السمعية والبصرية ، والإعلام بمعناه العام لغة واصطلاحا قد أصبح اليوم من أخطر وسائل العصر تأثيرا في نفوس الناس ، وغزوا ثقافيا وحضاريا وأسلوبا لتدعيم الاستعمار العسكري والسياسي والاستغلال الاقتصادي وأخيرا لتثبيت الهيمنة والتبعية للدول الكبرى والأمم الأقوىعلى الدول الصغرى والأمم الضعيفة ، وقد أصبح الوضع الحالي للإعلام الدولي مترادفا للدعايات المشبوهة الملفوفة في أغلفة الأكاذيب والتشويهات للحقائق والتحريات للوقائع بشكل عام وصار الإعلام مثار الشكوك والفتن والكراهية والبغضاء بين الشعوب وإشعال نار الحروب والكروب بين الدول حتى وقع الناس في حيرة وشبهة وريبة مما تنشره الصحف وتشبه الإذاعة والتلفزيون وتعرضه المسارح وخشبات التمثيل وشاشات الأفلام ، ويحاول جهاز الإعلام لكل جبهة لتشويه منجزات وتاريخ الجبهات المعارضة لها سواء في الداخل أو الخارج ، وهكذا خرج مفهوم الإعلام عن منطوقه الصحيح ومساره الموضوع لغة واصطلاحا .
وفي المنهج الإسلامي
إن المراد بالإعلام في الإسلام هو فن إيصال الحقائق إلى الناس واطلاعهم على المعلومات الصحيحة بالقول الصادق والفعل الصالح والإشارة الصادقة دون تضليل أو تخريف أو تمييع ، وأما الهدف المنشود منه في منهج الإسلام فهو إنارة طريق الحق والصواب أمام الناس بأمانة وعدالة واستقامة ، وقد وضع المنهج الإسلامي دعامتين أساسيتين للإعلام وهما : القراءة والكتابة ، ومما يدل على أهمية القراءة في حياة الإنسان واتخاذها وسيلة هامة ورئيسية في هداية البشر وإنارة طريق الحق أمامهم أن الله سبحانه وتعالى قد اختار لكتابه الخالد الذي أنزله هدى للناس إلى الأبد في جميع مرافق الحياة البشرية اسم :”القرآن” وهو اسم من مادة “قرأ” مثل الشكران والكفران فيقال : قرأت الكتاب قراءة وقرآنا .
ومنه قوله تعالى :”إن علينا جمعه وقرآنا ، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه” (القيامة : 18) .
وأن الكتابة قد اشار إليها القرآن كوسيلة رئيسية للإعلام بقوله : “ن والقلم وما يسطرون” (القلم : 1) ، ثم يقول :”هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين” (الجمعة : 2) ، وقد سمى سبحانه وتعالى الرسالات الإلهية التي أنزلها على رسله الكرام لهداية الإنسانية “الكتاب” أي اسم المصدر من مادة “كتب” او اسم المفعول بمعنى المكتوبة ، فصارت الكتابة مصدرا رئيسيا لإبلاغ رسالة الحق إلى الناس وإنارة طريقه أمامهم .
الكلمة مصدر الإعلام
ومن المعروف لدى الجميع أن الكلمة هي المصدر الأساسي لجميع وسائل الإعلام في العصر الحاضر سواء الصحافة منها والإذاعة والتليفزيون والمسرح والأفلام لأن أيا من هذه الوسائل الخمس لا يخلو من الكلمة أي المنطوقة منها أو المكتوبة والمقروءة منها أو المسموعة ، وأما هذه الكلمة الهامة في وسائل الإعلام العامة ففي ذات حديث ، صادقة أو كاذبة طيبة أو خبيثة ، هادية أو مضللة ، محكمة أو مشوهة ، ومن هنا جاء اهتمام الإسلام بالكلمة في منهجه الإعلامي كله فأكد ضرورة كون الكلمة التي تستخدم في وسائل الإعلام البصرية أو السمعية والمقروءة والمكتوبة ، طيبة من كل الوجوه ، معنى وهدفا واستخداما في المدى القريب والمدى البعيد ، وإلى هذه الحقيقة المرة الهادفة يشير القرآن الذي هو المنبع الأصلي للمنهج الإسلامي في كافة الشؤون ، والقضايا المتعلقة بأمة الإسلام فيقول : “ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، تؤتي أكلها كل حين بإذت ربها ، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار” (إبراهيم : 24-26) .
وأن الكلمة المختارة في وسائل الإعلام هي مدار الكلمات الكاذبة أو الخادعة سواء في الصحافة أو الإذاعة أو التلفيزيون أو التمثيل أو الفيلم ، فهي منكرة ومرفوضة في مفهوم الإعلام الإسلامي ، ويعتبره الإسلام زيغا عن الحق وجنحا إلى الضلال وأن أية وسيلة الإعلامية تستخدم الكذب او الخداع أو تشويه الحقائق هي مناهضة تماما للمنهج الإعلامي الذي يعنيه الإسلام ، ويجب أن يفهم كل من يهمه الأمر أن الصحافة أو الإذاعة أو التليفزيون وغيرها من وسائل الإعلام المعروفة في هذه الأيام والتي تنحرف عن منهج القول الصادق والحركة الصالحة في حدود المقومات الإسلامية ومسوغاتها الشرعية وتؤدي إلى تمييع الحقائق وتشويه القيم وتبديد الطاقات الأساسية للأفراد والجماعات في اللهو واللغو ونشر الأفكار الإباحية أو التخريبية في أذهان الشباب والصغار ، إنما هي حرب إعلامية في بلاد المسلمين مكرا وخداعا وغزوة فكرية تحت ستار التثقيف والترفيه بل هي تدمير وتخريب باسم التغريب الذي ينبهر به السفهاء ويغتر به البلهاء الذين لم يبلغ الوعي حلقومهم ولم يدخل الفهم خيشومهم ، وهذا و الواقع الإعلامي في أغلب الحلات في العالم الإسلامي في العصر الحالي .
أسباب انحراقف الإعلام في بلاد الإسلام
لقد تعددت وتكاثرت أسباب انتشار العناصر المناهضة للمنهج الإسلامي في وسائل الإعلام في بلاد المسلمين ومنها : السياسة الاستعمارية التي عقدت عزمها على إبقاء العالم الإسلامي كله تحت سيطرتها الكاملة الدائمة ، ولو رحل الاستعمار العسكري من معظم بلاد المسلمين ظاهرا بعد أن نهب خيراتها وثرواتها قرونا عديدة ، وأن استمرار ضمان التبعية واستغلال المصادر الطبيعية وامتصاص موادها الخام وأخيرا تركها أسواقا أبدية لمنتجات الغرب وسلعه التجارية إنما يتحقق ويتم بحجب الرؤية الحقيقية عن أبناء المسلمين وجعلهم في موضع الضياع والحيرة وتركهم في متاهات التوافه وخرافات السخائف باسم الثقافة والفنون وإغراقهم في غياهب المجنون والفتن ومصائد الملذات والشهوات التي تبث في أذهانهم نفوسهم النضرة اليافعة عن طريق وسائل الإعلام المسمومة بدراسة محكمة من أساتذة الإعلام في الغرب .
وجدير بالذكر أيضا أن وسائل الإعلام وخاصة الجماهيرية منها في معظم بلاد المسلمين من صحافة وإذاعة وتليفزيون وكذلك المسارح وأفلام ، قد بدأت في ظل الاستعمار الغربي قبل أن يرحل منها عسكريا وسياسيا ورسميا ، وكان واضعوا برامج ومناهج تلك الوسائل من رجال الإعلام الاستعماري الغربي أو صنعائهم الذين سلكوا مسالك سادتهم وساروا في دربهم وجلسوا على كراسيهم فسيطروا على الحياة الإعلامية والثقافية في البلاد العربية والإسلامية ولم يحدث تبديل أو تحويل في هذا الوضع السائد الرائد إلا قليلا في السنين الأخيرة .
وأما الدليل الواضح والبرهان الساطع على هذه الحقيقة المرة التي لا تزال أثارها محسوسة وملموسة في طول بلاد العالم الإسلامي وعرضها ، فهو القول المشهور المنشور لكل ذي عينين وذي أذنين من أولي الألباب والأبصار ، للمستشرق الانجليزي المعروف “جب” إذ قال : وقوله حجة قوية ومرجع أصيل لكل ما أقدم عليه الانجليز في هذا الصدد ، وعظة وعبرة لكل من أصيب بنتائجه الوخيمة ، لأنه صرح به وهو يستعرض أنجح الوسائل لتغريب المسلمين تغريبا حقيقيا :”ومن أجب تحقيق هذا الهدف المنشود وللوصول إلى هذا التطور الأبعد ، الذي تصبح الأشكال الخارجية بدونه مجرد مظاهر سطحية ، يجب ألا ينحصر الأمر في الاعتماد على التعليم في المدارس ، بل يجب أن يكون الاهتمام الأكبر منصرفا إلى إيجاد رأي عام ، والسبيل إلى ذلك هو الاعتماد على الصحافة” .. ثم يستطرد قائلا : “إن الصحافة هي أقوى الأدوات الأوربية وأعظمها نفوذا في العالم الإسلامي” ، ويتبين من هذا التصريح الأكيد من أحد واضعي الإعلام الغربي في العالم الإسلامي بدراسة وموضوعية مستهدفة وهي تغريب المسلمين حقيقيا فكريا وثقافيا وقد أشار “جب” إلى إحدى وسائله الرئيسية فقط وهي الصحافة ويتبعها الإعلام الإذاعي والمسرحي والسينمائي .
الصراع مع الحصار
إن واقع الإعلام في العالم الإسلامي اليوم في صراع مرير مع الحصار الذي ضربه الإعلام الأجنبي المعادي للشخصية الإسلامية للعالم الإسلامي من حيث الغايات والوسائل .
ومن مظاهر هذا الصراع أن وسائل الإعلام في بلاد المسلمين تعيش تحت ضغوط ونفوذ المؤسسات الدولية وأجهزة الإعلام الغربية الجبارة المنتشرة في كافة المجالات وبالأخص عن طريق وكالات الأنباء العالمية والبرامج التليفزيونية والمسرحية والسينمائية ، وأن التطور التكنولوجي الحديث السريع قد جعل وسائل الإعلام في العالم الإسلامي بأسره مرتبطة اضطراريا بعشرات الوسائل الإعلامية الخارجية الوافدة من داخل نطاق الحصار الغربي بحيث أصبح من المتعذر وإن لم يكن مستحيلا وعلى الأقل متعسرا للغاية التفرد بنظام إعلامي خاص ومؤثر ومستقل للعالم الإسلامي لكي يتمكن من تحقيق واقع إعلامي حسب المنهج الإسلامي .
مع هذا التعسر القائم فليس من المستحيل فك هذا الحصار المضروب حول الإعلام في بلاد المسلمين في كل الجوانب من كل الجهات إذا خلصت النية وقويت العزيمة ووضحت الرؤية وخفت حدة انشغال وسائل الإعلام في بلاد الإسلام بالقضايا الشخصية والمشاكل الفردية ، والانبهار بوسائل الإعلام الأجنبية وعقدة التوجه إلى الغرب لكل شيء .
التغيير المطلوب
إن التغيير المطلوب عاجلا وجذريا في وسائل الإعلام حاليا من الصحافة والبرامج الإذاعية والتلفزيونية والمسرحية والسينمائية ، في واقع الأمر في العالم الإسلامي بصفة عامة إلا نادرا هو تجنب الكذب والخداع في الكلمات المقروءة والمسموعة ، وتنقيح البرامج الإذاعية والتلفيزيونية من الأحاديث والمسرحيات وأغاني وتمثيليات من المقاطع والمشاهد والمناظر التي تخالف القيم الأساسية التي تغري الشباب والجماهير العادية على العادات الرذيلة والأخلاق الفاسدة في الحياة اليومية . مثل مناظر ومشاهد تناول الخمور والاختلاط بين الجنسين في الحفلات الراقصة وخاصة بأجسام نصف العارية ومشاهد السرقة والغصب والسطو والمكر والخداع في حياة الناس ، وينبغي أيضا تطهير هذه الوسائل من الأقوال والمناظر والأدوار التي تسخر برجال الدين وبأزياء العرب والمسلمين ، وتبهر بعادات وتقاليد منافية للقيم الدينية والحضارة الإسلامية .
النظام المتزن
لا شك في ان وسائل الإعلام اليوم قد أصبح مرتبطا ارتباطا وثيقا بوسائل التقدم التكنولوجي العصري وأن نجاح هذه الوسائل يتطلب الالتجاء إليها والالتزام بها ، ولكن في مكنة كل نظام للإعلام في العالم الإسلامي أن يلتزم بأصالة القيم الإسلامية والمبادئ الدينية والأخلاق المثالية ، وكذلك يستطيع الاحتفاظ باستقلال شخصية المجتمع الإسلامي ، وإنما يتأتى ذلك بطريقين أولا : الفهم الدقيق لخطورة الواقع الإعلامي المفروض على أجهزة الإعلام في بلاد العرب والمسلمين خفية ودقة عن طريق أخطر الرؤوس الفكرية من الصهاينة والمستعمرين والمستشرقين وهم دائما في المراصد .
وثانيا : التصور الصحيح لمفهوم الإعلام في منهج الإسلام وأساليبه المثالية والتنبه إلى تحديات الحملات الخفية الضاربة التي تحاول تشويه صورة المجتمع الإسلامي وتاريخه ، وأخيرا – وليس آخرا – يقع على عاتق الإعلام الإسلامي الدول الأكبر في ترسيخ ذاتية الأمة الإسلامية وإبراز شخصيتها نقية وصافية .