مجلة الجامعة الاسلامية – المدينة المنورة
كانت الهند من أسبق البلاد في مناصرة الدعوة الإسلامية إلى التوحيد والاعتصام بالسنة النبوية بدليل مسارعة علمائه في تأليف ونشر كتب عديدة بمختلف اللغات في هاتين الدعامتين اللتين يقوم عليهما صرح الإسلام ، وفي مقدمة هؤلاء العلماء العلامة المحقق المجتهد صديق حسن خان ، وكان عالما جليلا وداعية مجتهدا وقد بلغ عدد مؤلفاته في العلوم الإسلامية حوالي 222 كتابا ومنها 56 في اللغة العربية ، وقبل أن أقوم بتطواف سريع حول بعض هذه المؤلفات التي ساهمت مساهمة فعالة في نشر الدعوة الإسلامية الخالصة في أرجاء سبه القارة الهندية أرى من المناسب أن ألقى ضوء على تاريخ حياته بصفة عامة .
أسرته ومولده
ولد صديق حسن خان في مدينة “بريلي” في شمالي الهند ، وكانت ولادته يوم الأحد وقت الضحى في التاسع عشر من جمادي الأولى سنة 1248 هـ واشتهرت مدينة (بريلي) التي هو موطن جده من جهة الأم ، بدور العلم والعلماء منذ قرون ، وقد توفي والده (حسن خان) وهو في السادسة من عمره وبقي الطفل يتيما في كنف أمه ، ثم جاءت به من “بريلي” إلى مدينة “قنوج” التي كانت مواطن آبائه .
نشأته وتعليمه
وأكمل تعليمه الابتدائي على النظام القديم المتبع في ذلك الزمان في ربوع الهند ، فقرأ من الفارسية بعض الكتب الابتدائية ثم المبادئ من الصرف والنحو في اللغة العربية ونبذة من المسائل الفقهية .
وبعد ذلك ذهب صديق حسن خان إلى مدينة “كانبور” في الهند الوسطى وتعلم هناك بعض الكتب في البلاغة العربية مثل (مختصر المعاني) و(الفوائد الضيائية) ثم ارتحل إلى (دلهي) لتحصيل العلوم لدى عالمها ومفتيها الشيخ (محمد صدر الدين خان) وأثناء إقامته في دلهي أكمل دراسته في مختلف العلوم والفنون وأتم مقاصده منها بذهنه الثاقب ورغبته الملحة في تحصيل الكفاءة العلمية والمقدرة الأدبية في لغات ثلاث ، العربية والفارسية والأوردية .
رحلته في الخارج
وقد سافر “صديق حسن خان” إلى الحجاز وبعض البلدان العربية الأخرى ومن أساتذته المعروفين ، الشيخ محمد يعقوب الدهلوي المهاجر المتوفى بمكة المكرمة في سنة 1281 هـ ، واستحصل منه الشيخ صديق حسن خان سند القرآن الكريم ، كما درس علم الحديث على القاضي زين العابدين محمد الأنصاري اليماني ، وأخذ الإجازة في الحديث النبوي من الشيخ عبد الحق الهندي تلميذ الإمام الرباني القاضي محمد بن علي بن محمد اليماني الشوكاني .
تزوجه بأميرة بهوبال
وبعد عودته من الحجاز إلى الهند انتقل العلامة صديق حسن خان من “قنوج” إلى مدينة (بهوبال) في ولاية (مادهيا براديش) في وسط الهند ، وقد ذاع صيته في تلك الأيام كإمام في العلوم الإسلامية ومؤلف بارع في العلوم العقلية والنقلية ، وكاتب قدير في اللغات العربية والفارسية والأوردية ومجتهد متواصل في ميدان الدرس والتأليف والتدوين ولم يلبث أن تزوج بأميرة بهوبال(شاهجهان بيجوم) التي كانت تحكمها حينذاك .
نقطة تحول في حياته العلمية
وكان تزوج العلامة صديق حسن خان (بالأميرة شاهجهان بيجوم) وتلقبه بأمير بهوبال نقطة تحول لا في حياته العلمية فقط بل في النشاط العلمي والعهد التأليفي في الهند كلها فكان له موهبة الهية في الكتابة وفي التأليف حتى قيل أنه كان يكتب عشرات الصفحات في يوم واحد ويكمل كتابا ضخما في أيام قليلة ، ومنها كتب نادرة على منهج جديد ، وعندما ساعدته الظروف المنصبية والاقتصادية على بذل المال الكثير في طبعها وتوزيعها ، قد تكللت مساعيه العلمية لنجاح منقطع النظير .
من مؤلفاته العربية
وقلنا أن مؤلفاته في اللغة العربية وحدها يبلغ ستة وخمسين كتابا ، وهي تشمل علوم التفسير والحديث والفقه الإسلامي ، والصرف والنحو والبلاغة والشعر والمنطق وعلوم الحكمة والطب والفلسفة وأما تفسيره المشهور “فتح البيان في مقاصد القرآن” فيقع في عشرة مجلدات ضخمة بالحجم الكبير وقد طبع من جديد سنة 1965م بالقاهرة ، وهو أول تفسير من نوعه إذ يخلو من الإسرائيليات والجدليات المذهبية والمناقشة الكلامية ، وأن تفسير القرآن ينقسم إلى قسمين تفسير بالرواية ، وتفسير بالدراية ، وقد جمع صديق حسن خان في مؤلفه المذكور هذين النوعين من التفسير حتى خرج نادرا ونافعا في العالم العلمي .
ويقول المؤلف مبينا الغرض الأساسي من التفسير وفائدته : (إن أعظم العلوم مقدارا وأرفعها شرفا ومنارا وأعلاها على الإطلاق وأولاها تفضيلا بالاستحقاق وأساس قواعد الشرائع والعلوم ومقياس ضوابط المنطوق والمفهوم ورأس الملة الإسلامية وأساسها وأصل المذاهب الفقهية ومنبعها الأول –وأعز ما يرغب فيه ويعرج عليه وأهم ما تناخ مطايا الطلب لديه هو علم التفسير لكلام العزيز القدير ، لكونه أوثق العلوم بنيانا ، وأصدقها قيلا وأحسنها تبيانا ، وأكرمها نتاجا وأنورها سراجا وأصحها حجة ودليلا ، وأوضحها محجة وسبيلا ، وقد حاموا جميعا حول طلابه وراموا طريقا إلى جنابه ، مصباحا على قيامه ومفتاحا إلى فتح بابه) .
وها هو ذا تعريف المؤلف لعلم التفسير فيقول “هو علم باحث عن نظك نصوص القرآن و آيات سور الفرقان ، بحسب الطاقة البشرية وبوفق ما تقتضيه القواعد العربية ، قال الفنارى ، الأولى أن يقال : علم التفسير معرفة أحوال كلام الله سبحانه وتعالى من حيث القرآنية ومن حيث دلالته على ما يعلم أو يظن أنه مراد الله تعالى بقدر الطاقة الإنسانية وهذا يتناول أقسام البيان بأسرها ولا يرد عليه ما يرد على سائر الحدود ومبادئ العلوم اللغوية وأصول التوحيد وأصول التوحيد ، وأصول الفقه وغير ذلك من العلوم الجمة ” .
وأضاف “والغرض منه معرفة معاني النظم ومعرفة الأحكام الشرعية العملية وفائدته حصول القدرة على استنباط الأحكام الشرعية على وجه الصحة ، وموضوعه كلام الله سبحانه وتعالى الذي هو منبع كل حكمة ومعدن كل فضيلة ، وغايته التوصل إلى فهم معاني القرآن واستنباط حكمه ليفوز بالسعادة الدنيوية والأخروية وشرف العلم وجلاله باعتبار شرف موضوعه وغايته فهو أشرف العلوم وأعظمها ” .
الدين الخالص
ومن أجل مؤلفاته بالعربية كتاب سماه (الدين الخالص) ، وقد جعل المؤلف الكتاب قسمين ، وعبر عنهما (بالنصيب الأول) و (النصيب الثاني) وطبع بالقاهرة في أربعة أجزاء –
وخصص النصيب الأول بمباحث التوحيد والنصيب الثاني بمباحث الاعتصام بالسنة والاجتناب عن البدع ، وجاء الكتاب حافلا بمباحث التوحيد والسنة وسماه المؤلف (الدين الخالص) مقتبسا اسمه من قوله سبحانه وتعالى (ألا لله الدين الخالص) – ولم يدع المؤلف آية من آيات التوحيد الواردة في القرآن إلا أتى عليها بالبيان الوافي لإثبات التوحيد الخالص ، ونفي الشرك بجميع أنواعه وأصنامه ، وكان غاية في الترغيب في اتباع السنة ورد البدعة بأقسامها وأطرافها مع الرد ، على تحريف الغلاة وتأويل الجاهلين وإفراط المتعصبين وتفريط المبطلين ، فيقول في مقدمة الكتاب : ….”هذا كتاب ناطق ببيان مادلت عليه كلمة الإخلاص والتوحيد وأفهمته من رد أنواع الضلال من الشرك والبدعة والتقليد وهي التي جعلها إبراهيم عليه السلام كلمة باقية في عقبه موصلة أصحابها إلى دار السلام ، طالما كان يخطر لي بالبال أن أحرر في تلك الدلائل صحيفة كاملة أحبر لهذه المسائل رقيمة حافلة ولكن يعوقني الزمان الحاضر الحائز للفتن عن البلوغ إلى هذا المراد ولا يساعدني في الدهر الماشي على خلاف المراد على سلوك هذه السبل ، سبل السلام .
“وكنت دائما بالمرصاد لانتهاز الفرص تحصيلا لهذه البغية على ما يراد إلى أن وجدت – بحمد الله وحسن توفيقه – فرصة نزرة اختطفتها من أيدي آناء الليل والنهار ، وزمانا يسيرا سرقته من حراكات الفلك المحدد الدوار مع هجوم الأشغال وتشتت البال من كثرة الأسقام والاعتلال واختلاف الرجال ، فجعلتها وقتا لزبر هذا المرموق على سبيل الارتجال وجناح الاستعجال بالتفصيل والإجمال ، فجمعت – حسب ما تمكنت وقدر ما تحصلت – آيات بينات وأحاديث شريفة وردت في إثبات التوحيد ونفي الإشراك واتباع السنة ورد البدع مع تفسيرها الذي حرره العلماء الفحول وشرحها الذي أذعن له السلف الصالح للأمة وأئمتها بالتلقي والقبول ضاما إليها من مقالات أهل العلم المتقدمين منهم والمتأخرين ، ما وقفت عليها جامعا لاشتات هذه الأبواب المتفرقة في الدواوين المؤلفة إليها ، فجاء بحمد الله أجمع ما يجمع في هذا العالم ..” .
ويجد القارئ ما اشتمل عليه هذا الكتاب من المباحث الهامة من عناوين أبوابها العامة المقسمة إلى موضوعات يحتوي عليها كل باب ، فدونك نماذج من ذلك .
1 – باب في الآيات القرآنية الدالة على توحيد الله تعالى ،
أ – أعظم آية في القرآن وأفضلها حيث قال : عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله : أي آية من كتاب الله أعظم ؟ قال : آية الكرسي ، قال :”ليهنك العلم يا أبا المنذر” أخرجه أحمد ومسلم ، وقد ورد في فضلها غير هذا لاشتمالها على أصول التوحيد … الخ .
ب – دليل وجود الصانع :
سئل بعض الأعراب ، ما الدليل على وجود الصانع الواحد ؟ قال : إن البعرة تدل على البعير ، وآثار القدم تدل على المسير ، فهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلى بهذه الكثافة أما يدلان على وجود الصانع الخبير ؟ وفي القرآن من دلائل التوحيد كثير وتكرير قوله تعالى ” لا إله إلا هو” للتأكيد وفائدة تكريرها الأعلام بأن هذه الكلمة أعظم الكلام وأشرفه ، وفيه حيث العباد على تكريرها والاشتغال بها ، فإنه من اشتغل اشتغل بأفضل العبادات ، وبالاشتغال بها ترسيخ قدم التوحيد في قلوب العباد .. الخ .
جـ – رد التثليث والتقليد :
وقال الله تعالى : (وما من إله إلا الله) فيه رد على من قال بالتثليث من النصارى ، وقال تعالى : (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا) وذلك أن النصارى عبدوا غير الله ، هو المسيح ، وأشركوا به ، وهو قولهم ، أب وابن وروح القدس فجعلوا الواحد ثلاثة ، (ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) وتبكيت لمن اعتقد بربوبية المسيح وعزير وإشارة إلى أن هؤلاء من جنس البشر وبعض منهم ، وإزراء على من قلد الرجال في دين الله فحلل ما حللوه وحرم ما حرموه عليه ، فإن من فعل ذلك فقد اتخذ من قلده ربا ، ومنه (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) .. الخ .
د – أرجى آية لأهل التوحيد :
وقال تعالى :”إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ” وهي أرجى آية لأهل التوحيد ، فإنه سبحانه لم يؤنسهم عن المغفرة ، عن على قال : ما في القرآن أحب إلى من هذه الآية (ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما) ، وعن جابر قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ما الموجبتان ؟ قال ، من مات لا يشرك بالله دخل الجنة ، ومن مات يشرك به دخل النار” أخرجه مسلم ….الخ .
درس من حياته
وجدير بالذكر والاعتبارأن زواجه بأميرة بهوبال الغنية واشتغاله بالشؤون السياسية والإدارية لم يثنه عن نشاطه العلمي ، ولم تصرفه بحبوبة العيش وفخفخة الدولة عن خدمة العلم والدين ، بل استفاد ، بثاقب فكره من هذه النعم لتحقيق هدفه الأسمى وغايته الرفيعة .