في رحاب رمضان المبارك
من حق هذا الشهرعلى أغنياء المسلمين أن يوسعوا في الإنفاق على العاملين الكادحين عندهم
الخليج اليوم – قضايا إسلامية الاثنين 12-مايو-1986 م
لقد جرت العادة على اللسان وعلى القلم ، كلما نسمع أو نقرأ خبرا سارا يبعث على الأمل ، في مدلهمات الأمور ومقاسات العصور ، أن يقول ويكتب : الدنيا بخير والإسلام بخير ، وما إلى ذلك من التعبيرات الباعثة على الأمل والرجاء ، وتذكرت هذه الملابسات كلها عندما سمعت أمس أن مؤمنا موسرا من خيرة أصحاب المال والجاه في هذا القطر الأمين قد قرر تقديم وجبة الإفطار على حسابه الخاص طوال شهر رمضان ، لكل العاملين الكادحين تحت خدمته ومؤسسته على أن تصلل الوجبات إلى مساكنهم جاهزة ، وذلك عملا منه في مواساة هؤلاء الذين حرمتهم ظروف الحياة القاسية من الاشتراك مع أهلهم وعوائلهم في هذه النعمة فما أجدر أن يكون قدوة حسنة لذوي الثراء من المؤمنين الصادقين في كل مكان ؟ ومن هذا المنطلق استلهمت موضوع حديث اليوم والله ولي التوفيق .
رمضان شهر الرحمة والمواساة
إن الشكر على النعمة لا يكون باللسان فقط بل يجب العمل على أن يشترك معه فيها إخوانه ممن حرمتهم الظروف ومنعهم الحظ أو القدر ، أيا كان التعبير الشائع في مثل هذه المناسبات من الاستمتاع بمثلها ، وحينما يفرح الصائم المؤمن بالشبع وتوفر الأطعمة والأشربة على مائدة الإفطار والسحور ، وكذلك عندما يفرح باجتماع أسرته وأفراد عائلته حول المائدة ، عليه أن يذكر المحتاجين والفقراء والبؤساء الذين لا يجدون ما يطعمون ويشبعون في هذه المناسبة والأيتام والأرامل من الذين لا يجدون من يجتمع حوله وتحت حبه وعونه أفراد أسرته ، وإن كانت الرحمة بهم والشفقة واجبة في كل وقت فإنها أوجب في شهر رمضان ، وإذا كانت وشائج الإنسانية تحتم على كل منهم تجاه كل منهم أن يكون بارا وماسحا دموع الكادح المحتاج ، وأن المؤمن الحقيقي يرى سعادته بإسعاد الآخرين ومواساته في مواساة الآخرين .
ومن الطبيعي أن الإنسان أن شعر بمرارة الحرمان في غير رمضان مرة فإنه يشعر بها في رمضان أكثر من مرة ، وحينما يرى في ذلك الفقير والمحتاج والعامل الكادح المسكين أن أصنافا من المواد الغذائية والفواكه والخضروات واللحوم والحلوى تدخل بيوت الأثرياء وتفوح منها روائح الشواء والحساء والطهي والقلي كل مساء ، ويرى أيضا خروج أطفال الأثرياء بعد انتهاء تناول ألوان من الأطعمة والأشربة على موائد الإفطار الشهية ، إلى الشوارع فرحين لاعبين ، بينما أولاده كانوا محرومين من كل هذا وذاك ، يشعر بحسرة في صدره ودمعة في بصره ، ويزداد حزنا عندما يفكر في أنه لا يجد ما يقدم لأولاده وأفراد أسرته يوم العيد من ثياب جديدة وهدايا قيمة ، ومن هنا يمكن لنا أن نتصور مدى استفحال مرارة الحرمان عند المحتاجين في شهر رمضان ، فصارت ضرورة مواساة هؤلاء الإخوة في هذه الظروف أوجب وأهم ، وصار رمضان موسما خاص للمواساة والمواساة بين الناس ، وفرصة لمكاسب البر والإنفاق والإحسان ورضاء الله والناس أجمعين .
ما آمن بي من بات شعبان وجاره جائع
اذكروا دائما وخاصة في هذا الموسم الكريم الفضيل قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم :”ما آمن بي من بات شعبان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم” ، واذكروا أقرباءكم وجيرانكم وأصدقاءكم المحتاجين مع نسائكم وأولادكم وزملائكم الأثرياء الموسرين على موائد الإفطار بأنواع من الأطعمة الدسمة الشهية ، وفكروا أن تشركوا عائلة من عوائل الفقراء من جيرانكم أو أقربائكم أو زملائكم في المكتب أو المصنع أو المتجر في مائدة أطايب الطعام وأنواعه ، واذكروا فحوى هذا التوجيه النبوي والفوائد المترتبة عليه في حياتهم الأسرية والاجتماعية والوطنية ، ولو أن كل صائم قادر أطعم صائما فقيرا ، ولو أن كل عائلة موسره أسعفت عائلة معسرة ، ولو أن كل تاجر غني استضاف على مائدة إفطار مجموعة من العاملين معه لكان موسم الصيام موسم الألفة والمودة والبركة وتقوم من أيامه ولياليه رائحة عاطرة للأخوة الإنسانية والمواساة التي تشعر بنعمة العاطفة القلبية وتعود هذه الأيام على المجتمع كله باليمن والبركة والنشاط ، وتصفو الأذهان والقلوب من الأحقاد والضغائن ، ويشعر كل منهم نحو الآخر بصلة الروح قبل صلة القرابة وبصلة القلب قبل صلة الدم فما أعظم الثمار التي يجنبها الصائمون القادرون المواسون للآخرين في هذا الموسم الكريم العظيم بكل ما تحمله كلمة الكرم ولفظة العظمة من المعاني الكبيرة والفوائد الجليلة .
لا حسد إلا في اثنتين
قال النبي صلى الله عليه وسلم مبشرا إلى أهل الإيثار والمواساة والإحسان إلى الناس بأموالهم على اختلاف حاجاتهم ومصالحهم من تفريج كرباتهم ودفع ضروراتهم وكفاياتهم في مهماتهم : “لا حسد إلا في اثنتين ، رجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها للناس ، ورجل أتاه الله مالا وسلطه على هلكته في الحق” وفحوى هذا الحديث الشريف أنه لا ينبغي لا حد أن يغيط أحدا على نعمته وتمنى مثلها إلا إحدى هاتين النعمتين ، وذلك لما فيها من النفع العام والإحسان إلى الخلق ، ولا نعمة أعظم من أن ينعم الله على الإنسان بالمال ويوفقه إلى الإنفاق في وجوه البر والخير ، ويطهر قلبه من البخل والشح .
تكفل الله بمضاعفة أموال المنفقين
لقد تكفل الله سبحانه وتعالى للمنفقين في الخير بمضاعفة أموالهم وتأمينهم من الخوف وإبعاد الأحزان عنهم ، فأي إنسان على وجه الأرض لا يريد مضاعفة أمواله ؟ وأي إنسان في الكون لا يبغي الأمان من الخوف والقلق النفسي ؟ فقال تعالى :”من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون ” (البقرة : 245) ، ثم قال :”الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون” (البقرة : 274) وضمن الرب عز وجل كل ذلك لعبده الذي يبذل ماله في سبيل تخفيف الأم الناس وتفريج كرباتهم ، وإنما الكرم الذي يرضاه الله تعالى هو الذي يكون في سد حاجات المحتاجين والمعوزين ، سواء أكان عن طريق تقديم الأطعمة والأشربة للجائعين والظامئين أو تقديم الكساء للمحتاجين إليه أو لوازم الإيواء للذين لا يجدون المأوى المناسب أو بناء مدرسة لتعليم الفقراء والمساكين أو دار لإيواء الأيتام أو ملجأ لرعاية المرضى والعجزة .
فصفات الإنفاق تتفاوت في شدة الحاجة وعظيم النفع ، وحسن المكان والزمان لذلك اقتضت حكمة الله ومشيئته أن يتضاعف العطاء والجزاء من الله لهؤلاء المنفقين المخلصين من عباده إلى ما لا نهاية فقال عز وجل :”مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لم يشاء والله واسع عليم” (البقرة : 261) وبين الخالق تعالى كيفية المضاعفة كان القلب ينظر إلى التضعيف ببصيرته كما تنظر العين إلى هذه السنابل التي من الحبة الواحدة ، وذلك لتقوية إيمان المنفق وسمو نفسه بالإيمان الراسخ بواسطة الشاهد العياني إلى جانب الشاهد الإيماني ، “ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء” .