من خصائص الهجرة النبوية
كانت فتحا مبينا للأمة الإسلامية ونقطة تحول في تاريخ البشرية
الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 4 سبتمبر-1986 م
في غرة شهر محرم من كل عام تحتفل الأمة العربية الإسلامية بل والبشرية جمعاء بأخلص وأمجد وأعظم حدث في تاريخ الإنسانية ألا وهو الهجرة النبوية حيث هاجر الرسول الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة كنقطة انطلاق بدعوته من الآفاق المحلية إلى الآفاق العالمية وبداية عهد جديد في بناء الأمة الإسلامية وإرساء الحجر الأساسي للدولة الإسلامية ، وكانت حقا وفعلا الخطوة الأولى نحو الفتح المبين للأمة الإسلامية على وجه الأرض ، ونقطة تحول عظيم في تاريخ البشرية كلها منذ الخليقة إلى يوم القيامة ، ومن هذا المنطلق الواقعي والمنطقي ، قد تم اختيار هذا الحدث الهام بداية وعنوانا لتاريخ الأمة الإسلامية مدى الأيام والعصور .
الذكرى السابعة بعد الألف الأربعمائة
يحتفل العالم الإسلامي بل العالم الإنساني كله في هذه الأيام ، بذكرى الهجرة النبوية السابعة بعد الألف والأربعمائة ، بطرق شتى وبأساليب عديدة ، بإقامة الحفلات وعقد الندوات والاجتماعات وإلقاء الخطب والمحاضرات ونشر الأحاديث والمقالات وإذاعة البرامج الخاصة والمسابقات فكل هذا وذاك لبيان بعض خصائصها ذلك الحدث العظيم ولاستذكار دروس منه ولاتخاذ عظات وعبر من حلقات الهجرة وملابساتها ومناسباتها ، ولا شك في أن كل هذه الحركات والخطوات ليكون عونا على إضافة لبنة جديدة في بناء صرح الصحوة المتجددة في مجال نشر المعارف والعلوم عن رسالات الأنبياء والرسل ، وبث الوعي الديني والرقي والروحي في نفوس المؤمنين ، وإزالة الشبهات ورد الأباطيل والأضاليل التي تثار حول المبادئ الدينية والتعاليم الإسلامية من أذهان الناس ، فكان من الطبيعي والمنطقي أن يتخذ كل جهة وشخص له إلمام بأهمية الهجرة النبوية وأبعادها الخطيرة والجليل ، من هذه المناسبة فرصة لاستذكار جوانب ذلك الحدث التاريخي والاستبصار من نبراسها والاهتداء من عظاتها .
ويجب على كل باحث ودارس وقارئ لأي موضوع يتعلق بأحد جوانب الهجرة النبوية أن يدرك أولا وقبل كل شيء ، بعض خصائص الدعوة المحمدية وبعبارة أدق ، الرسائل الإلهية التي بعث الله تعالى بها خاتم رسله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم كمدخل واضح إلى شتى أركان وزوايا ذلك الحدث العظيم الذي غير مجرى التاريخ البشري بأكمله وأشمله ، وأن هذه الدعوة قد امتازت عن سائر رسالات الأنبياء والرسل السابقين عليهم السلام بعموميتها المطلقة إلى كافة الناس في كل زمان ومكان وظروف وبيئة ، كما أنها شاملة ومحيطة بجميع مرافق الحياة البشرية ، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو وحده الذي خصه الله تعالى لأن يكون رسولا إلى كافة الثقلين وخاتم النبيين ورحمة للعالمين .
وقد صرح القرآن الكريم مخاطبا له :”قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا” (الأعراف : 158) ، وقال له أيضا :”وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون” (سبأ : 28) ، وقد توج رب العزة صفة عمومية الرسالة المحمدية وعالميتها إذ قال بكل وضوح وجلاء :”وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” .
فحوى عمومية الدعوة الإسلامية
لقد رأينا وعلمنا بنصوص القرآن ومفاهيم الإسلام أن الدعوة المحمدية عامة للناس جميعا وعالمية برسالتها ومبادئها ، فلا بد أن تكون غير محلية ولا بيئية ولا موجهة إلى قبيلة أو قوم أو أمة دون أخرى ، كما أنها خاصة بزمان أو مكان ، وأرى من المناسب والمفيد عند تناول هذه النقطة الهامة من خصائص الهجرة النبوية في هذه اللحظة الحرجة أو الحساسة التي تمر بها الأمة الإسلامية والملابسات المحيطة بمجريات الدعوة الإسلامية في أنحاء العالم ، وسط تيارات عديدة ومفارقات ومناقضات ومعاكسات متداخلة ومتصارعة في شتى الكواليس والدسائس ، وأحابيل الأضاليل والأباطيل لطمس بعض الملامح الخالدة والخصال الحميدة لدعوة الإسلام الذي جاء نورا وهدى وشفاء ورحمة للعالمين قاطبة ، أن اقتبس بعض الفقرات المناسبة المفيدة من كتاب “الفلسفة الحديثة في الميزان” لفضيلة الشيخ المرحوم ، محمد بن فتح الله بدران (وكان فضيلته أستاذا لي في مادتي الملل والنحل ، والعقيدة بكلية أصول الدين بالأزهر الشريف في الخمسينات ثم في السبعينات من هذا القرن ، كما تولى الإشراف على رسالتي للدكتوراه بجامعة الأزهر ، ولكن المنية وافته قبل تقديمها ومناقشتها فحل محله في الإشراف العالم الجليل فضيلة الشيخ خليل هراس رحمه الله تعالى) فيقول :”وعموم الدعوة المحمدية يعم الدنيا من آدمها إلى قيامتها ، أما منذ آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فكما أشرنا من قبل وبخاصة في قوله تعالى :”شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك” (الشورى : 13) ، ولأن الله سبحانه وتعالى قال لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولكل واحد من أتباعه في سورة آل عمران :”قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم ، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون” (آل عمران : 84) ، وأضاف يقول : ولقد كانت كل الدعوات السابقة عليه .. ببيئة ، محلية محدودة مصدقة ومكملة وممهدة .. أما منذ دعوته صلى الله عليه وسلم إلى الأبد ، فهي في عمومها أوسع من أن تدرك أو تحدد لأنها تشمل الناس كافة وجميعا” (ص : 340) الطبعة الأولى بالقاهرة سنة 1968م) .
مراحل الدعوة المحمدية
إذا نظرنا إلى خصائص وميزات الدعوة المحمدية لنرى أنها تمت واكتملت في مراحل كثيرة وكلها بأمره تعالى وإذنه ومشيئته ، وبمقتضى حكمته في خلقه وتدبيره وقضائه وقدره ، وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته في مكة ، من أول نبوته سرا بين عشيرته وأهله وأصدقائه المخلصين ، وبعد أن مضى في هذه المرحلة من الدعوة السرية أو المحدودة لمدة ثلاث سنوات ، أخذ يدعو الناس إلى الإسلام علنا ، وكان يذهب إلى الناس في موسم الحج كل عام وإلى المواسم الأخرى في عكاظ ومجنة وذي المجاز وغيرها من الأسواق العربية الشهيرة ، واستمر هذا الدور أو هذه المرحلة المكية العلنية من الدعوة الإسلامية لمدة عشر سنوات أخرى ، فتكونت خلال هاتين المرحلتين النواة الأولى للمجتمع الإسلامي ، من الذين آمنوا بصدق دعوته ونبوته صلى الله عليه وسلم ، وقد انتشر نبأ هذه الدعوة إلى قبائل العرب المختلفة في الجزيرة العربية ، وتسرب أيضا إلى الأمم والشعوب الأخرى المجاورة بل إلى بلاد نائية عن طريق التجار والرحل ، وبشدة وطأة هذه الدعوة على العقائد والعادات والتقاليد السائدة في ذلك العهد بين أصحاب الحضارات الأخرى في داخل جزيرة العرب وخارجها من اليهود والفرس والروم وغيرها ، فلم تلبث أن طار خبر هذه الدعوة إلى القارات عبر المحيطات .
قبل أن ندخل في تفاصيل حدث الهجرة وملابساته وخصائه ينبغي لنا الوقوف على بعض الحقائق والدقائق المتعلقة بكلمة الهجرة أو مصطلح “الهجرة النبوية” ، من حيث اللغة والاستعمال والعرف والسمع لأن اللغة العربية أثري اللغات وأغناها وأحكم اللغات وأدقها على الإطلاق ، ولحكمة يعلمها خالق البشر وعلمهم البيان ، قد اختار هذه اللغة السامية الرفيعة قدرا ومكانة وتاريخا لغة لدستوره الخالد ولسان لكتابه المبين ، فمن الطبيعي أن يكون للعربية وزن خاص في ميزان اللغات ولكل مصطلح منبعث منها دلالات ومفاهيم وخصائص وملامح ، لا يطلع على كنهها ومغزاها إلا المتذوقون لأسرار اللغة والمتلمسون لنفحاتها ، ودعنا الآن نلقي بدلونا أيضا في هذا البحر العميق فلعلنا نخرج به منه بدر أو عقيق ، فإن فعل “هجر” بوزن فعل في اللغة العربية يفيد معنى “ترك” أو تخلى عنه فإذا قل : هجر شخص بيته أو مكانه فتكون الجملة تامة ومفيدة ، وأما فعل “هاجر” بوزن “فاعل” فيفيد معنى التفاعل والتعاون بين الطرفين وليس مجرد الترك أو التخلي من طرف واحد ، فإذا قيل : هاجر فلان بيته أو بلده ، فلا تكون الجملة تامة ولا مفيدة ، بل ينبغي أن يقال :”هاجر فلان من مكان إلى آخر أو هاجر من بلد إلى آخر ، أي بمعنى الانتقال من مكانه إلى مكان آخر بحيث يحصل التفاعل بينهما ويكون مركز ذلك التفاعل الشخص “المهاجر” .
وبعد أن عرفنا هذا الفرق اللغوي الأساسي بل الدقيق بين مادتي : هجر وهاجر في الاستعمال اللغوي الأصيل ، ننطلق إلى الأمام قليلا لمعرفة الإطلاق اللغوي والعرفي على واقعة انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه من مكة إلى يثرب (المدينة المنورة) ، وأن اللفظ الذي يطلق على هذه المغادرة إنما هو “هاجر” أي “هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى يثرب” ولم يقل ولا يقول أحد من اللغويين أو المؤرخين الثقاة :”هجر النبي صلى الله عليه وسلم مكة” لأنه لم يغادر مكة هربا من المتاعب أو طلبا للراحة او المغانم ولم يقصد من الذهاب إلى يثرب “الفرار” من شدة الأهوال التي كان يلاقيها هو وصحبه ، في سبيل نشر دعوته وإبلاغ رسالته ، ولكن كانت تلك المغادرة باختيار وتخطيط لتغيير موقع العملية الحركية إلى مكان آخر جديد ولاتخاذ مقر مناسب في ظروف أوسع وبوسائل أخرى عديدة لم تستخدم حتى ذلك الحين ، في الفترة المكية .
اختيار الموقع الحركي الجديد
وكانت الدعوة الإسلامية في الفترة المكية تدور حول ترسيخ عقيدة التوحيد في أذهان الناس ، فلما جاء وقت انتقالها إلى طور آخر وهو طور تأسيس الشريعة الشاملة الكاملة ، تتناول جميع مجالات الحياة البشرية ، اقتضت إرادة الله عز وجل أن ينتقل مركز هذه الدعوة إلى موقع أصلح وأنسب بمقتضيات الطبيعة والبيئة والظروف والمجتمع فانتقل إلى تلك البقعة من الأرض ، وكان من المتوقع بل ومن المتأكد أن هذه الهجرة وذلك الاستبدال سوف يثير مشاكل أكثر ومتاعب في سبيل الدعوة وتوسيع نطاقها لأن العداوة إذا كانت منصبه من جانب المشركين فقط بمكة فصارت العداوة متعددة الأطراف في المدينة من اليهود والمنافقين وحكام القبائل والملوك في البلاد المجاورة لأنهم كانوا ينظرون إلى هذه الدعوة بعين الريبة والخوف لأنها ربما تكون وبالا على مراكزهم وخطرا على مستقبلهم وتحديا لأهوائهم ومطامعهم وملذاتهم الدنيا .
وأما أهل المدينة (يثرب) فقد أحسوا من طبيعة هذه الدعوة ومن رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم على استجابة دعوتهم له للتوجه إلى ديارهم ، لمسئوليتهم الجسيمة والمشاكل العديدة تواجهها تلك الدعوة في المرحلة الجديدة فعاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الدفاع عنه وعن صحبه في سبيل الدعوة ونشرها والذود عنها بكل إخلاص وصدق نية ، وأن هذا التعهد لأصدق دليل على أن الهجرة ما كانت فرارا من المتاعب وهروبا من المشاكل ، تخفيفا عن النفس والمال والأهل أو تنازلا عن أدنى شيء من عناصر الدعوة ومبادئها وتعاليمها بل كانت حقا وواقعا الانتقال بالدعوة من مرحلة المبادئ إلى مرحلة البرامج ومن الموقع الدفاعي إلى الموقع الحركي الفعال .
ويجب أن يستعاد إلى الأذهان في هذه النقطة الهامة من ملابسات الهجرة النبوية أن المشركين بمكة قد ائتمروا لقتل النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن علموا بقراره للهجرة إلى يثرب بمعنى أن قرار الهجرة لمنعه منها لأنهم كانوا يعرفون أنه سينتقل بدعوته إلى استراتيجية أقوى وأوسع ، ومن هذه الحقائق الثابتة الواضحة يدرك كل من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد الدوافع الحقيقية للهجرة النبوية وملابساتها الصحيحة ، وأنها قد نقلت مركزية دعوة محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وفتحت أبواب “الفتح المبين” للإسلام والمسلمين ، ومكنت لطليعة الدعاة مواجهة التحديات بفاعلية أكثر آفاقية أكبر بحيث لم يشهد التاريخ مثيلا لهذه الاستراتيجية وشبيها وإبلاغ دعوة وتكوين وتدعيم دولة .
الهجرة فتحت أبواب الفتوحات
وكانت الهجرة من مكة إلى المدينة مرحلة هامة من مراحل الدعوة الإسلامية ونقطة تحول خطير في انتشارها في أرجاء الأرض وهي التي مهدت السبيل لوصول دعوتها إلى مختلف القبائل العربية وهي التي دعت الأمم الأخرى والشعوب العديدة لاستطلاع حقيقة هذه الدعوة وصاحبها وهي التي جذبت الوفود من داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها إلى حضرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ، وهي التي فتحت الأبواب إلى فتح مكة ثم إلى فتوح أخرى عديدة ، وإليه يشير دستور الإسلام الخالد مخاطب صاحب الهجرة :”إنا فتحنا لك فتحا مبينا” وقد نجم من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة أن تكونت فيها نواة الدولة الإسلامية وتقع المدينة المنورة شمال مكة على مسيرة أحد عشر يوما منها ، وفي التحديد المسافي العصري بالكيلومتر فتقدر المسافة بين مكة والمدينة الآن بحوالي خمسمائة كيلومترا أو أقل منها عند التحديد أو يزيد عن التقريب .
وقد كانت المدينة ف تلك الأيام مدينة مكشوفة معرضة للغزو الخارجي ، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق المشهور لرد عدوان قريش ، ويقال : إن أول من بنى يثرب ، أحد رؤساء العمالقة وظلت تسمى باسمه حتى قدم إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان العمالقة يسكنون في يثرب وفي ضواحيها في العصور الغابرة ثم توالت هجرة اليهود إلى بلاد العرب ، فرارا من وجه مضطهديهم أو الآخذين بالثأر منهم من البابليين واليونان والرومان فاستوطنوا شمال الحجاز … وكانت أشهر القبائل اليهودية النازلة ببلاد العرب : بني النضير في خيبر ، وبني قريظة في فدك ، وبني قينقاع بالقرب من المدينة ذاتها ، وكان اليهود يقيمون في قرى محصنة فاستطاعوا أن يسيطروا على جيرانهم من القبائل العربية إلى أن جاءت الأوس والخزرج أو هما قبيلتان من نسل قحطان ، فأقمنا في يثرب ودانتا لليهود في أول الأمر ثم صارت لهما الولاية عليهم .
أول حجر في بناء الدولة الإسلامية
وبهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وضع أول حجر في بناء الدولة الإسلامية الأولى في التاريخ الإسلامي ، واتخذ مسجده مقره العام ليقيم فيه المسلمون شعائر دينهم وليعقدوا اجتماعاتهم فيه للنظر في شؤونهم العامة وقد وضع الرسول صلى الله عليه وسلم للجماعة الإسلامية نظاما تسير عليه في زمن السلم والحرب ، وبدأ يعقد اتفاقيات ومعاهدات مع الطوائف الأخرى بعدم الاعتداء على المسلمين وبالاشتراك معهم في الدفاع عن المدينة ضد الخطر الخارجي ، ثم أخذ يعد العدة لنشر الدعوة الإسلامية بين القبائل العربية ولحماية هذه الدعوة ، حتى صارت المدينة خلال فترة وجيزة مركز إشعاع الدعوة الإسلامية ومحطا أنظار قبائل وشعوب العالم ، وكانت حال يثرب السياسية حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم حروب طاحنة بين الأوس والخزرج ، ومؤامرات اليهود لإشعال نار الفتنة بين هاتين القبيلتين العربيتين ومحاولتهم للسيطرة على القبائل العربية المجاورة فكان قدومه إليها فاتحة عصر جديد في تاريخ جزيرة العرب لأنه آخى بين الأوس والخزرج ، حتى نسوا ما تأصل في نفوسهم من عداوة وضغائن وأصبحوا بنعمة الله إخوانا وانضموا إلى لواء الإسلام ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين جماعات المؤمنين الذين هاجروا من أوطانهم ولحقوا به في المدينة والأنصار الذين رحبوا به وسائر المهاجرين وأكرموا وفادتهم وآخى بين هذين الفريقتين من المؤمنين في السراء والضراء توثيقا بعرى المحبة والأخوة الإسلامية بينهم واعتصموا بها .
وعندما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبدأ بناء كيان الدولة الإسلامية واتخذها العاصمة الأولى لتلك الدولة الفتية كان بالمدينة في تلك الفترة ثلاثة أحزاب مختلفة ، أولها : المهاجرون والأنصار وهم نواة الإسلام ، وكانوا يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا لا حد له ، وأن روح الأخوة الإسلامية التي غرسها النبي صلى الله عليه وسلم بينهم حالت دون ظهور أي أثر من آثار أضغان الجاهلية وأحقادها ، وبدأ الأنصار والمهاجرين يتنافسون في بذل أكبر تضحية في سبيل الله ورسوله ، وثانيها : المنافقون فكانوا يتألفون من الذين يخفون ميلهم إلى عبادة الأوثان ، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي ، وكان عبد الله يطمع أن يكون ملكا على المدينة فجمع حوله طائفة قوية من الأتباع ولكن قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قد أحبط أعماله في استغلال الجماهير ، وتولى زمام السلطة ، فاضطر هو وأنصاره في غمرة الحماسة التي استقبل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتظاهروا بالإسلام ولكنهم كانوا يتحينون الفرصة لينقلبوا ضد المسلمين ، يدبرون المؤامرات ضدهم في الخفاء ، ولذلك كانوا مصدر خطر كبير على الدولة الإسلامية الناشئة ، وهذا الحزب قد وصمه القرآن بالمنافقين فيقول :”إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المناففقين لكاذبون، اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعلمون” (المنافقون : 1-2) ، وأما ثالث الأحزاب في المدينة فهو : اليهود الذين أثارت هجرة الرسول إليها ورسوخ قدم دعوته فيها وذيوع أمرها في أنحاء جزيرة العرب ، ضغائنهم وهاجمتهم العداوة والبغضاء والحسد ، فتحزبوا ضد المسلمين وأصبحوا أشد الأحزاب خطرا على الدعوة الإسلامية ، مع أنهم كانوا يستفتحون على المشركين إذا نشبت الحرب ؟؟؟؟؟؟؟