صوت الشرق سبتمبر 1965 م
بعد أن تخلصت الهند من عهد الاستعمار عقب كفاح مرير طويل وجدت نفسها مثخنة بأنواع من الجراح الاجتماعية ، مثل الفقر والجهل والمرض وعدم تكافؤ الفرص وتركز الثروات في أيدي قليل من الأفراد والنظام الإقطاعي السائد في القرى ، وفي الريف ، وجاء دستور الهند في عام 1950 فسوى بين الجميع في الحقوق والواجبات ومهد الطريق لخلق مجتمع اشتراكي تعاوني موطد الأركان ومدعم الأساس ، وأفسح المجال لتكافؤ الفرص العام الجميع .
وكانت الهند منذ أن نالت استقلالها تستهدف التحرر من أوزار الماضي ،وتحقيق العدالة الاجتماعية وماحربة التمييز بين المواطنين على أساس طبقاتهم الاجتماعية .
الاتحاد السياسي
ولم تكن الهند ، حتى في عهد الاستعمار البريطاني منطقة واحدة تخضع لحكم سياسي موحد ، من الهمالا شمالا إلى رأس كومورين جنوبا فكان حكم الأمراء الإقطاعيين يشمل نصف المناطق الداخلية في شبه القارة وعلى أثر توحيد ولآيات الأمراء اختفى أساس النظام الإقطاعي وسقطت قلاع الاستبداد والتمييز الاجتماعي ، ولم تمر فترة في تاريخ الهند ، بدون أن تشهد تطورات اجتماعية ، ولكن كانت تلك التطورات ذات طابع إقليمي فلا تؤثر إلا في مناطق أو طوائف معينة ، وما لبثت هذه الحركة الاجتماعية أت عمت البلاد بأسرها .
النظام الديمقراطي
وكان من أولى ثمار الاتحاد السياسي إدخال النظام الديمقراطي في طول البلاد وعرضها ، وإلغاء نظام التملك الإقطاعي للأرض المعروف بنظام “الجاجيرداري” وحدث في جميع أنحاء البلاد تبدل ثوري مماثل .
وقد اكتسح هذا النظام ارستقراطية الطبقة الحاكمة وحرر الفلاحين من عبوديتهم الاجتماعية ، وحطم الحدود الطبيعية العتيقة وأوجد نظما اجتماعية جديدة بين مختلف طبقات الأمة ، ومكن النظام الجديدة للقوى العاملة من الخدمة بلا عقبات ولا فوارق في جميع أنحاء الهند ، وتركت هذه الثورة الاجتماعية أثرها في العادات والتقاليد ووجهات النظر في طبقات الموظفين وأصحاب الحرف والفلاحين المزارعين ، وكانت بالفعل حركة تحمل معاني بعيدة المدى .
المساواة وتكافؤ الفرص
وجاء دستور الهند في عام 1950 فحرم التمييز بين الأفراد بسبب طبقاتهم الاجتماعية وألفى نظام النبذ الاجتماعي القديم ، وسوى بين الجميع في الحقوق والواجبات ، ونقل القوة السياسية إلى جماهير الشعب ، وبدأت كل فئات الأمة من الفلاحين والعمال والمنبوذين السابقين تسهم مساهمة فعالة في ممارسة سلطاتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وكان هذا بمثابة انتقال ملحوظ للسلطة من المناطق المدنية ، ومن طبقات الموظفين الكبار إلى مختلف والطبقات وهذه النصوص الدستورية كانت دليلا حيا على تصميم الهند على تحقيق العدالة الاجتماعية وتعميمها .
وعمدت حكومة الهند المستقلة إلى تحقيق هذه العدالة بطريق استغلال موارد البلاد استغلالا علميا مدروسا وزيادة الدخل القومي ، وإفساح مجال التقدم والعمل أمام جميع المواطنين . ومراعاة العدالة في توزيع الثروات القومية بين الفقراء والأغنياء في المدن والقرى .
ومن أجل هذا سارعت الدولة إلى إصدار قوانين الإصلاح الزراعي التي أصالت النظام الإقطاعي في صميمه فقسمت الملكيات الواسعة المكدسة في أيد قليلة ، وتحول ملايين من الفلاحين إلى ملاك لملكيات صغيرة .
إعادة تنظيم القرى
كان نظام القرية الهندية من قبل بصفة عامة ، يخضع للنظام الورائي أو للزعامة العائلية ، أو القبيلة ، أما النظام الاجتماعي الجديد الذي اتخذته الدولة بعد الاستقلال فقد هز أركان النظام التقليدي هزا عنيفا وحدث تغيير ثوري جذري بوسائل سلمية ، وبطرق التفاهم والتعاون .
ونحن نرى اليوم في المجالس القروية والمراكز الريفية أفراد الطبقات التي كانت من قبل مضطهدة أو منبوذة يجلسون جنبا إلى جنب مع إخوانهم من أفراد الطبقات الإقطاعية السابقة ، ويتشاورون ويتعاونون على الخير وعلى النهوض بالمجتمع ، وأصبح الجهد المشترك هو الأساس في إدارة شؤون القرى استغلال الأراضي الزراعية التي تقع في حدود القرية واستثمار موارد الأخرى لخير الجميع .
مجتمع تعاوني
بدأت الحركة التعاونية في الهند منذ أكثر من خمسين عاما ، إذ أوصت اللجنة التي عهد إليها دراسة وسائل القضاء على المجاعات التي تحدث في الهند حينا فآخر ، بإنشاء جمعيات تعاونية في البلاد ، ولكن نشاط هذه الجمعيات ظل مقصور على عمليات التسليف الذي تقدمه للزراع ، وبعد أن ظفرت الهند باستقلالها ، دعت الحاجة إلى دعم الجمعيات التعاونية ونفذت قانون الإصلاح الزراعي وزيادة عددها ، وتوسيع نطاق أعمالها من تدبير القروض اللازمة لصغار المزارعين ، وتهيئة وسائل التسويق لبيع حاصلاتهم وتوفير البذور الصالحة والآلات الزراعية وغيرها وهكذا ازداد عدد الجمعيات التعاونية بفضل برامج الإصلاح والتنمية واتسعت دائرة نشاطها .
تعميم التعاون
إن الهند الجديدة تتميز بانتشار الحركة التعاونية فيها انتشارا ملحوظا كخطوة نحو إقامة صرح الديمقراطية الاقتصادية ، وإن وضع حاجات أهل الريف في يدي هيئة تعاونية واحدة في كل قرية لا شك يساعد كل فرد من أفرادها في حصوله على حاجاته المختلفة بيسر وسهولة وقد ساعد ذلك أيضا على تحمس أهل الريف للمنظمات التعاونية ، وإيمانهم بها ، حتى أصبح الشعار السائد في القرى ، قرية واحدة ومجتمع واحد في نظام اشتراكي تعاوني .
وقامت بعض الهيئات التعاونية في القرى الهندية بحفر الآبار للري وإنشاء الصناعات الريفية وتوفير الآلات اللازمة لتصنيع منتجات الألبان وتوزيعها في القرى وفي المدن ، فضلا عن تمكين أهل الريف من الحصول على القروض الزراعية وسدادها ورعاية مصالح الطبقات العاملة .
مشروعات السنوات الخمس
لقد اقتبست الهند من سمات الاشتراكية وأسسها ما يلائم ظروفها فوضعت لنفسها نمطا اشتراكيا خاصا تضطلع فيه الدولة بعيء أكبر في الميدان الصناعي ، وقد ظل جزء كبير من ميدان النشاط الصناعي مفتوحا أمام الجهود الفردية ، واتخذت الهند مشروعات السنوات الخمس كلها على أسس هذا النمط الاشتراكي .
قال زعيم الهند الراحل “نهرو” أمام لجنة التخطيط القومي في سبتمبر عام 1959 م :
“إن واجبنا يقتضي أن نكف من التفكير في خير فرد من الأفراد أو جماعة من الجماعات ، وأن نفكر في خير الشعب كله ، إن من الناس من ينقدوننا لأننا ثم ندخل الاشتراكية الكاملة في بلادنا دفعة واحدة ، وهو فقد يقوم على عدم معرفة كثير من حقائق الموقف فيها ، ذلك أن الاشتراكية هي وليدة الثورة الصناعية والاشتراكية لم تقم إلا بقيام الصناعة الحديثة وتوزيع الثروات ، ورفع مستوى الدخل القومي والاشتراكية تتحقق عن طريق التقدم الصناعي” .
وجاء مشروع السنوات الخمس الأول فوضع سياسة جديدة لحيازة الأراضي وتحديد الحد الأقصى للملكية الزراعية ، وإلغاء نظام الوسطاء الزراعيين بين الدولة والذين يفلحون الأرض وجاء المشروع الثاني فاتجه إلى العناية بالصناعات الحديثة ، الثقيلة منها والمتوسطة والخفيفة .
وهكذا تسير الهند بفضل هذه المشروعات الحيوية في ميدان الانطلاق والتقدم ، ومستهدفة تحقيق مجتمع اشتراكي تعاوني يمضي على هدى بجناحين من الحقوق والواجبات وتكافؤ الغرص والاكتفاء الدائي والرخاء الشامل ..