الخليج اليوم – قضايا انسانية – 25/9/1985م
يصف القرآن الكريم الحياة الدنيا وصفا دقيقا في الآية الكريمة التالية : “كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح …” ، فإنما لا تكفي بذكر الماء يخالط الأرض فيوقظ فيها النبت إلى النماء والخضرة والازدهار والإنماء والقطاف والحصاد ، دون أن تشير إلى غرورها الخلاب وسرابها البراق وفي النهاية إسدال الستار على مصير محتوم وزوال لازم لكل شيئ في هذا الكون ، وليس في استطاعة أي بليغ ماهر أو أي مصور مبدع أو أي كاتب ملهم ، مهما أوتي من قوة الإجادة والدقة في التعبير ، أن يحيط بوصف حقيقة الحياة الدنيا بأدق من هذه الآية القرآنية .
دار عمل وابتلاء …
يقول القرآن الحكيم موضحا الغاية القصوى من الحياة في هذه الدنيا : “تبارك الذي بيده الملك وهو على شيئ قدير خلق اللموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا” …
وهذه الحياة الدنيا في نظر الإسلام ما هي إلا دار عمل ومحنة وأما الحياة الآخيرة فهي دار جزاء وحساب ..
وأن الله سبحانه و تعالى لم يترك الإنسان لأحلام اليقظة تلعب بعقله وتعبث بفؤاده وتتصرف في خياله كما شاء بل أقام له من عالم الإدراك أدلة ساطعة عديدة على أن هذه الحياة وشيكة الزوال ، سريعة الانتهاء مطلية بالغرور ، مملوءة بالمحن لئلا يصب كل همومه على الترامي على أعتابها ، والتعلق بأذيالها ، والتكالب . على متعها والتفاني في حطامها الفاني . وأن هذا القدر من الإدراك والفهم لا يتطلب منا قليلا من التدبر في مجريات الأمور حوالينا ليلا ونهارا ويقول الشاعر الحكيم في معرض الإشارة إلى حقيقة هذه الحياة الدنيا :
ألا إنما الدنيا كأحلام نائم وما خير عيش لا يكون بدائم
وإذا أخلد الإنسان إلى خلوته وانقطع إلى رؤيته لم يلبث هذا الاتعاظ أن يتبخر في رأسه ويرجع عن غية ويمسك عن ارتكاب أساليب شنيعة وأعمال كريه في سبيل الوصول إلى الأهداف التافهة في هذه الدنيا الفانية .
تنازع البقاء والمثل العليا ..
إن هناك حقيقة لا ينكرها أحد ، هي أن الله سبحانه وتعالى أودع فينا من الطبائع والغرائز ما يحملنا على تنازع البقاء وحب التملك والحرية والسيادة ولكن يجب أن يستخدم الإنسان هذه الطبائع والملكات كلها لنشدان المثل العليا الإنسانية بحيث لا يذل الفرد للفرد ، ولا يغش إنسان لأخيه الإنسان ، بل يجب أن يحب لأخيه الإنسان ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه .
وبعبارة أدق ، أن رسالة كل إنسان في نظر الإسلام هي أن يعمل للصالح الذي تعود فائدته عليه وعلى الناس في حدود العمران والحضارة والتقدم والرخاء وعليه أيضا أن يكبح ما عساه أن يكون من طغيان الغرائز وطيش المطامع وحدة الطباع ….
وأن الافتنان بزخارف الدنيا والانخداع بحطامها البراق والهروب وراء متعها الخادعة السريعة الزوال فكل هذا وذاك قد أدى العالم – في زمان ومكان إلى خصومات ظالمة ، وحروب غاشمة ، حتى أصبحت هذه الدنيا مسرحا من مسارح الحروب والكروب ، تعرض عليه فصول الدمار والعدوان ، ومشاهد الخراب والهلال ومناظر الجحيم في شتى بقاع الأرض ! !
وربما يقول البعض إن هذا التصارع والتدافع من سنة الله تعالى في الأرض ، في ضوء الآية القرآنية : “ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض . … ”
ولكن المراد هنا الإصلاح والعمران ورد المطامع والمظالم لكي يسود الأمن والاستقرار بين الناس ، وأما الحالة القائمة في العالم اليوم فإنها التقاتل والتهارش والتنافس بباعث التوسع في السلطات واستعمار الشعوب المستضعفة وامتصاص دمائها واستغلال ثروات الأم المغلوبة بدون حق ولا عدل ، والبحث عن أسواق عالمية لتصريف منتجات الدول الكبرى ومحصولاته الزراعية على أنقاض الدول المستضعفة بعد شل الحركات الصناعية فيها وسطو موادها الخام ظلما وعدوانا ، وإفكا وبهتانا .
إن الفهم الدقيق لحقيقة الحياة الدنيا ليجعل الإنسان ينظر إليها بعين الواقع ويدرك أنها لا تستحق لمثل هذا التكالب الشنيع والتصارع الفظيع ، لأنها مرحلة انتقالية قصيرة إلى دار القرار حيث يحاسب حسابا دقيقا عن كل لحظة من حركاته وسكناته في هذه الحياة ثم يجزي الجزاء الأوفى ، فما أصدق الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم إذ قال : “الدنيا مزرعة الآخرة ” …