في رحاب رمضان المبارك
وداعا يا رمضان
الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 5-يونيو-1986 م
لقد تعود العالم الإسلامي منذ خمسة عشر قرنا على استقبال هذا الشهر المبارك بفرحة وبهجة وسرور ، لأنه أفضل الشهور وأكرم الأيام على الإطلاق في حساب السماوات والأرض والأفلاك ، عند الله والملائكة والإنس والجن في كل زمان ومكان ، والمسلمون قد استقبلوهبشعور فياض في نفوسهم إذ حمل إليهم ذكريات أسمى الرسالات وعظات أعظم الانتصارات في تاريخ البشر ، وهو يودعهم بعد أن ترك في نفوسهم معنى خاصا وثمرة ناهضة لحاضرهم ولمستقبلهم ، وإحساسا فياضا بنعمة الله تعالى عليهم لأداء واجباتهم فيه من فعل الخيرات وترك المنكرات والإكثار من الأعمال الصالحات ، والإنفاق في سبيل البر والإحسان وفتح باب التوبة والغفران .
نبراس المستقبل
ولا شك في أن رمضان قد غرس في نفوس المسلمين صورة واضحة وزاهرة عن مكاسب هذا الشهر العظيم ، وعن الدروس التي استفادوها من هذه الفريضة الكبرى وهذه الشعيرة الإسلامية العظمى لأن شهر رمضان بصيامه وقيامه وآدابه وبره وإحسانه وعباداته وطاعاته ، قد ربى المسلمين المتقين على أنواع من الأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة والصفات النبيلة التي لا بد وأن تكون نبراسا للسير في الطريق القويم في حاضرهم ومستقبلهم وفي مقدمة تلك الصفات المكتسبة من رمضان ، بصفة خاصة وبصورة عملية وجلية ، مراقبة الله في السر والعلن ، لأن الصيام من الأعمال الصالحات التي لا يطلع عليها إلا الله العليم الخبير ، وأن الصائم إنما يقوي في نفسه خلق الإخلاص وصدق النية ، ويحارب النفاق والرياء ومجاملة الناس ، وعلى هذا المعنى الخاص قد وصف الله الصيام وصاحبه كالآتي :
“وكل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به” (مسلم) وإن استشعر الصائم في هذا الشهر كله هذا المعنى الشامل ، فإنه يتسلح به في مدار السنة ولن يتخلى عنه أبدا ، ومنها أيضا صفة المصابرة والمثابرة ، وأن الصيام قد كان عونا له طوال أيام رمضان على ترك الطعام والشراب والشهوة نهارا من أجل الله ومراقبة الله مع توفر جميع الإمكانيات لديه كما كان يشعر بآلام الآخرين ويشارك إخوانه في إفطارهم وسحورهم وفي قيامهم وفي اداء الجماعات والعبادات ، فتربي في نفسه خلق الصبر والتضحية والأخوة والتعاون والبر والإحسان فيسارع إلى مساعدة الآخرين ومحابرة الظلم والفساد والدفاع عن الضعفاء ولمضطهدين .
ومن الصفات الحميدة التي اكتسبها الصائم من رمضان صون النفس من مدنساتها لأن الذي يترك الحلال طوعا لا كرها ويتخلى عن كثير من ضرورات الحياة انقيادا لأوامر الله تعالى وتحت مراقبته فقط فكيف لا يتخلى عن الحرام والدنايا والخطايا ، وهكذا ينتصر على نفسه ويكسب مناعة وحصانة ضد الانهيار أمام المغريات الفاسدة والانكسار عند المفاجئات القاسية ، فالصيام يغرس فيه عناصر القوة البدنية والنفسية والروحية وهي القوة المتكاملة لدى الإنسان تجعله مؤمنا قويا وثابتا لا يتردد عند الشدائد ويؤدي رسالته في هذه الحياة بكفاءة وجدارة ونية صادقة ، ومنها أيضا خلق العزيمة وطاعة الله تعالى سرا وعلنا لأنه قضى شهرا بأكمله في مراقبة الله عز وجل وأداء واجباته اليومية بنظام وإخلاص ودقة وفي تلاوة القرآن ومدارسة العلوم والأحكام الدينية وفي مواظبة حضور المساجد وقيام الليل فيها والاعتكاف بها فلا بد أن يسعى لعدم انقطاع هذا الحبل فيها الموصول طوال هذا الشهر ، عقب وداعه !
شهر الدروس العملية
عندما نودع شهر رمضان يجب أن نتذكر بعض الدروس العملية التي درسناها فيه واستوعبنا موادها بوعي وفهم ومنها تربية قوة الإرادة في النفس فبالصوم ملك الصائم المؤمن أمره وسيطر على هوى نفسه ووجهها إلى ما فيه صلاحها وخيرها وصدها إذا دعته إلى محرم أو زينت له محظورا ، وهكذا ضيق مجاري الشيطان في نفسه وسد منافذه التي يأتي منها ، والقدرة على محاربة هوى النفس والشيطان هي رأس الأمر كله ، وهي عملية صعبة المراس ، وأما الإنسان عندما يملك السيطرة على نفسه فيستقيم أمره وتقوى إرادته ، فينأى عن الدنايا ومحتقرات الأمور ويحيا عزيزا شريفا طاهر السيرة وطيب الذكر .
والدرس العملي الآخر الهام في رمضان هو توحيد مشاعر أمة الإسلام فإن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها كانوا يتبعون نظاما واحدا وشعورا واحدا طوال هذا الشهر العظيم إذ كانوا يمسكون عن المفطرات في وقت واحد إلا وهو طلوع الفجر ويتناولون طعام الإفطار في وقت واحد وهو غروب الشمس وينطقون جميعا بكلمات وأدعية واحدة في هذه المناسبات مثل :اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت” إلخ وهذا النظام البديع يجمع الملايين من أبناء الإسلام على طاعة لله وشكره على نعمائه يلعب دورا هاما ومحسوسا في توحيد مشاعر الأمة كلها عملا وسلوكا وقولا ومن هنا يمكن لنا أن نقول أن شهر رمضان قد منح لنا درسا عمليا قويما في مجال توطيد ركن التعارف والتعاون والتضامن بين المسلمين وخاصة في هذه المرحلة التي يمر فيها العالم الإسلامي على طريق الشتات والشقاق والتقاتل بتخبط وفوضى فكرية وعملية ! فجاء رمضان ليوضح لنا الطريق ، ويعطينا الدروس ، وليقدم في أيدينا مصباح الهدى لنرى النور الذي يهدينا إلى سواء السبيل بإذنه تعالى .
نداء رمضان إلى أمة الإسلام
إن شهر رمضان قد وجه إلى المؤمنين جميعا ، نداء خاصا عند قدومه فقال : يا أيها الذين آمنوا اذكروا حكمة ربكم في اختياري شهرا لصيامكم وقيامكم وتجمعكم وتعاونكم لأنني أعيد إلى ذاكرتكم وأذهانكم ذكريات أمم سقطت وهلكت وخسرت الدنيا والآخرة بسبب تخليها عن الإيمان والأخلاق لأنهما دعامتان أساسيتان لبناء كل أمة في كل زمان ومكان ، كما قال ربكم في كتابه الحكيم :”إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” ، وقال الشاعر الفيلسوف :”وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت إلخ” ، فقد رأيتم الانتصارات والأحداث الجليلة التي غيرت مجرى التاريخ الإسلامي بل والإنساني ، في صدري وحولي مثل انتصار بدر الكبرى وفتح مكة وغيرهما فيجب عليكم أن تفهموا جيدا أن إيمان الرجال وأخلاقهم كانت في مقدمة أسباب انتصارهم وانهزام أعدائهم الذين كانوا أكثر عددا وعدة ، واذكروا دائما ماضيكم ليكون دليلا لحاضركم ومستقبلكم ، واذكروا أيضا السر الكامن في اختياري ظرفا لتلك الانتصارات وبداية لنزول أسمى الرسالات وفريضة ركن هام من أركان الإسلام ، لأنني مصنع الرجال ومنبع الأخلاق ومصدر العزائم القوية والهمم العالية وأن الذين بقابلونني بترحاب وإخلاص وصدق هم المؤمنون فينصرفون من عندي حاملين لواء التقوى وحائزين على جائزة رب العالمين يحبهم ويحبونه ، أذلة على المؤمنين (أي متواضعين) أعزة على الكافرين ، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم” .
وهذا نداء رمضان إلى أمة الإسلام قاطبة حينما نودعه ويودعنا بعد أن حل بنا هذا العام المليء بالتطورات والتقلبات فلعل في ندائه عبرة لأولي الأبصار من أمة الإسلام !!