الخليج اليوم – قضايا إسلامية السبت 21-فبراير-1987 م
إن من أهم السور القرآنية في مجال التربية الإسلامية والتزكية النفسية والتنمية الأخلاقية للأمة الإسلامية ، سورة “الماعون” التي جاءت في الترتيب القرآني بين سورتي قريش والكوثر .
وان هذا الوضع المختار المعين من رب العباد يدل دلالة واضحة ومعجزة على الميزات التربوية والتزكية النفسية التي تنطوي عليها لأن سورة قريش تتضمن عظات وعبرا ودروسا وإيعازا لقريش حول النعم التي أنعم الله عليهم بها من تسهيل شؤون أمور الحياة لهم عن طريق الرحلات التجارية والجولات المهنية شتاء وصيفا في أنحاء جزيرة العرب مع شدة الصعوبات وكثرة العقبات من وعورة الطرق وخشونة الطقس ومخافة قطاع الطرق وغيرها وهكذا حقق لهم الأمن والأمان في الحياة وجلب العيش ثم جعلهم – فوق هذه النعم كلها – سدنة بيت الله الحرام الذي هو أعظم وأشرف بقعة على وجه الأرض ، ووجه قلوب إليه من كل فج عميق فاستفادوا من هذه النعمة العظمى أكثر من أي قوم آخرين في أنحاء العالم ، وبعد هذا البيان البديع الدقيق ، والتذكر المقنع العميق يدعوهم إلى عبادة رب هذا البيت الذي أطعمهم ووسع عليهم الرزق زحقق لهم الأمن والطمأنينة .
وأردفها بسورة “الماعون” في الترتيب القرآني المقروء المصون في المصحف وإن لم يكن حسب الترتيب النزولي لأن ذلك الترتيب كان لبناء المجتمع الإسلامي والإيماني لأول مرة حسب الأحداث الجارية ، وبعد أن اكتمل التشريع واختتم النزول وأصبح النظام الإسلامي مكتملا ومرتبا ومنسقا كان من الأنسب بالإرادة الإلهية ترتيب آخر للأجيال المتعاقبة وبعبارة أخرى كان الترتيب النزولي لمعالجة القضايا جزئية وصار الترتيب المقروء بعد اكتمال الدين بصورة تعالج القضايا الإنسانية كلها بنظرة كلية وعامة لأن فترة البناء قد تجاوزت وجاءت قترة التنظيم والتطبيق .
وقد اتت بعد سورة “الماعون” سورة الكوثر التي هي أعظم السور في امتنان خالق البشر بنعمائه الكبرى ، على سيد البشر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم حيث رد فيها وبها على الشامتين فيه وبوفاة أولادهم الذكور ، وبعدم بقاء أبنائه الوارثين ، ودعوه جهلا وزورا ، وغباوة وسخافة بأنه “أبتر” أي مقطوع الخلف ، بمعنى لم يبق له ابن يرث مجده ويحفظ اسمه ونسبه ، وقد رد الله سبحانه وتعالى على هؤلاء السفهاء أنه ليس مبتور الخلق وأبتر المال بل أعطاه ربه الكثرة كل الكثرة في الدنيا والآخرة ففي الدنيا ورفع ذكره ودعوته ومآثره بحيث لا يوجد له مثيل في الوجود وهو الذي نص بقوله الصريح : “ورفعنا لك ذكرك” فهل يساوي بقاء ابن وارث أو أموال وبين هذا الرفع العام الخالد وأما في الآخرة فهو صاحب حوض الكوثر والورد المورود والمقام والمحمود .
وإنما الأبتر الحقيقي هو خصمه وشامته وشانئه .
وأما مكانة سورة الماعون بين هذين الصريحين من سورة القرآن فهي أنها ترتبط ارتباطا وثيقا بهما توجيهيا وتثقيفيا إذ وضعت المقياس الدقيق لقيمة الإنسان وعزته وكرامته ومكانته ، ومعيار التمييز بين خلق المؤمن المخلص وخلق العابد المرآئي .
فالحكم على المتمسك بالدين شكلا والمتمسك به حقيقة هو معاملته مع الناس – كما قيل : الدين المعاملة – فإذا رأينا شخص يدعى الدين وفي الوقت نفسه يدفع الأيتام ولا يرعاهم ولا يساعد المساكين ولا يحث على مساعدتهم ، فهو بظاهر نص القرآن وروحه الفطري كاذب في دعواه ومكذب بالدين في المنطق والواقع ، وكذلك إذا رأينا شخصا يدعى الإسلام ويؤدي الصلوات شكلا وفي الوقت نفسه يمنع عن الناس المعونات الخفيفة الرخيصة في أنظار الخلق ولكنها ذات قيمة اعتبارية في نظر الاعتبارات الخلقية والمعنوية مثل أشياء البيت الأطباق والأواني المطبخية والمعالق والسكاكين وحتى الفأس والمطرقة وما إلى ذلك فهو من أصحاب الويل والثبور في مفهوم الأخلاق الإسلامية مهما كانت مظاهره في الصلوات وأمثالها من العبادات الظاهرة .