الخليج اليوم – قضايا إسلامية -1987 م
هذه جملة حكيمة من جوامع الكلم الطيب المأثورة عن أشرف الخلق ورحمة للعالمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، وينبغي أن تفتح هذه العبارة قلب كل إنسان عاقل وتثير مشاعر الإنسانية التائهة أو المائعة في متاهات الحياة التافهة وتنفق كل طاقاتها ملذات وشهوات الدنيا الفانية وتبدد جميع الجهود والإمكانيات في تحقيق بعض المطالب الوهمية تبقى آثارها لفترة من الزمن ثم تتلاشى كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، ويؤكد مقتضى الوعي السليم والفهم الصحيح لفلسفة الحياة وإدراك حقيقة مجريات الأمور في هذه الدنيا على وجه الأرض يوما فيوما أن هذه الحياة تالدنيا ليست باقية إلى الأبد وتنتهي إلى نقطة النهاية وتتوقف نبضة الحياة في أية لحظة بدون سابق إنذار وإذن مسبق من صاحبها مهما كان وضعه على وجه الأرض عزة وقوة ومكانة وسلطة ، وهذه هي الحقيقة الوحيدة التي لا يختلف فيها اثنان على الإطلاق ولا يشك فيها أحد سواء من زمرة الملاحدة أو الدهر بين أو الماديين أو المنتمين إلى أية فلسفة أو عقيدة أو ديانة حتى قال الشاعر الحكيم مشيرا إلى أن الشيء الوحيد اتفق عليه الخلق كلهم في هذا الكون هو الموت لكل كائن حي مع أنهم مختلفون في أمر البعض بعد الموت والحياة الأخرى :
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم إلا على شجب الخلف في شجب
وأراد بلفظ شجب أولا الموت ثم البعث وإلى هذه الحقيقة المرة أشار شاعر آخر وهو مؤمن بقانون الموت الكوني وبقانون البعث والحياة الأخرى كذلك فقال :
الموت باب وكل الناس داخله يا ليت شعري بعد الباب ما الدار
الدار دار النعيم إن علمت بمــا برضى الإله وإن خالفت فالنـار
وإذا أدرك الإنسان الواعي المؤمن بالنواميس الفطرية الإلهية الكونية أن حياته هذه ما هي إلا موقوته وما هذه الدار إلا معبر إلى دار البقاء وأن هذه الدنيا وما فيها من العيش مهما كان طويلا وعريضا لا يعادل قدر بعوضة ولا بوزن بثقل مثقال ذرة بالنسبة إلى الحياة الأبدية الباقية بعد الانتقال السريع المفاجئ من هذه الدار الخاطفة كلمح البصر والقاطعة لكل ما كان فيها من متع وخدم وترف وقصور وفارهة وقد صدق الشاعر العاقل إذ قال بوعي وإدراك :
لا إنما الدنيا كأحلام نائم وما خير عيش لا يكون بدائم
ومن هذا المنطق السليم الواقعي سيفهم العاقل الإرشادات الربانية النبوية إلى ضرورة المبادرة إلى الخيرات والمسارعة إلى الاستعداد لمواجهة الموت والحياة التي بعده ومنها قوله تعالى :”وسارعوا إلى مغفرة من ربك وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين” (آل عمران : 133) . وقوله كذلك : “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله إن الله خبير بما تعملون” (الحشر : 18) . ومن الأحاديث النبوية في هذا الشأن قوله الحكيم :”أكثروا ذكر هادم اللذات” أي قاطع جميع لذائذ العيش ومتع الحياة الدنيا فجأة وبدون إنذار وبلا فائدة ومن الندم على عدم الاستعداد للقاء الموت على أهمية وسداد حيث لا يجدي الاستجداء لتأخير لحظة إذا جاء الأجل المحتوم ، كما هدى وأرشد رب العباد : “يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون ، وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب، فأصدق وأكن من الصالحين ، ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون” (المنافقون : 11) .
وكلما يتقدم الإنسان سنا ويبلغ أواخر العمر العادي يحتم عليه موجب عقله إن كان سليما وواعيا ان يستعد للرحيل من هذا الدار بزاد وفير ويزداد من أعمال الخير وذكر الآخر ، وقد حذر الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم كل من بلغ الستين من عمره من قطع الإعذار عنه وبلوغ الغاية في العذر للتمادي والتماطل والتواكل والتكاسل ، فيقول بصورة حاسمة وبعبارة قاطعة بجوامع كلمة : “اعذر الله إلى امرئ أخر لأجله حتى بلغ ستين سنة” (البخاري) .
فينبغي أن يدرك العاقل أن الدنيا دار نفادلا دار خلود وأن هذه الحياة مركب عبور لا منزل حبور وأنها مزرعة الآخرة وإنما يحصد هناك ما يزرع هنا ، ولهذا حق على الإنسان الواعي أن يسلك فيها مسلك أولي الألباب والأبصار ويتأهب لأن ينتقل إلى دار البقاء والقرار :”والآخرة خير وأبقى” وكيف يؤثر العاقل دون الخير والبقاء ؟